كشف واحدة من أحط مراحل التاريخ البشري..

لماذا لم يفز فيلم “الجوكر” بجائزة الأوسكار؟

2020-02-12

كشف واحدة من أحط مراحل التاريخ البشري.. لماذا لم يفز فيلم أشرف الصباغ

 

 


انتهى حفل توزيع جوائز الأوسكار بعد أن حمل معه العديد من المفاجآت، أو للدقة، مفاجأة كبيرة لها عدة أفرع، ألا وهي فيلم “الطفيلي” الذي حصد 6 جوائز، كان من أهمها جائزة أفضل فيلم، وأفضل إخراج.
وبالنسبة لي، كان من الطبيعي ألا يحصد فيلم “الجوكر” جائزة أفضل فيلم في مسابقة الأوسكار 2020. وإمعاناً في التأكيد على ذلك، فقد تم منح جائزة أفضل موسيقى تصويرية للفيلم، بالإضافة لجائزة أفضل ممثل لخواكين فينيكس الذي جسّد شخصية الجوكر، وذلك من أجل إسكات أي أصوات من جهة، ومن أجل التعتيم على الفيلم وعدم منحه حقه التاريخي – السياسي – الاجتماعي في الوجود من جهة أخرى.

لقد جاء هذا الفيلم في واحدة من أحط وأدنأ المراحل في تاريخ البشرية، حيث تسيدت النيوليبرالية، وسادت كل مظاهر الوحشية والتوحش والبلطجة السياسية والاجتماعية، وأهدرت قيمة الإنسان وقيمة العمل، وانتشر الجهل والتجهيل، رغم وجود كل أنواع التقنيات الرفيعة ووسائل العلوم والتكنولوجيا، ووسائط التواصل بين البشر.

لنتذكر جيداً أن المغني والمؤلف الموسيقي الأمريكي بوب ديلان الذي كان يكتب كلمات أغانيه، ظل لسنوات طويلة طريد المنظومة السياسية الأمريكية المنحطة والدنيئة. ظل لسنوات طويلة خارج منظومة “التقدير”، بل ووضعوه على حافة “الخيانة” وعدم الرضا عن “المثل الأمريكية العليا”. وعندما قلَّموا أظافره تماماً، أو تقلَّمت أظافره بفعل السن والزمن، غيَّروا من أجله معايير جائزة نوبل ليحصل عليها في فرع “الآداب”. وكان من الممكن أن يستحدثوا فيها فرعين، واحداً للشعر الغنائي، والثاني للصحافة. وهذا بمناسبة حصول الصحفية البلاروسية سفيتلانا ألكسييفيتش عليها قبل ديلان بعام واحد فقط.

الأمر الآخر، هو أنه يتحتم على الجميع أن يعرفوا أن فيودور دوستويفسكي ليس الكاتب المفضل لدى الروس، وليس كاتبهم الأول. وعندما كان حياً يرزق لم يكن ذا قيمة مقارنة بوضعه بعد رحيله. إن هذا المقامر السكير الذي فضح، ليس فقط السلطة السياسية والنظام القيصري، بل والمجتمع الروسي المنحط بفقرائه قبل أغنيائه، وولج إلى أحط وأقذر طرقات أرواحهم المظلمة، لم يكن ليحصل على أي تكريم أو تقدير واحترام أثناء حياته إلا ببعض الخضوع والتدجين، وربما المراجعة الدينية والأخلاقية. ومع ذلك يظل دوستويفسكي مثالاً ساطعاً ودالاً على حقارة وانحطاط السلطة والمجتمع في آن معاً، وتميمة لجوهر الضمير الإنساني والإبداعي من جهة أخرى.

أما ما يخصنا نحن في هذا المقام، فهو كاتبنا نجيب محفوظ الذي لن يرضى عنه أحد، لأنه هو الآخر دخل إلى أحط مناطقنا الروحية الوضيعة والمظلمة، وكشف الأعطاب الاجتماعية والروحية والسياسية في مجتمع منحط أكثر من سادته الذين يحكمونه، ونظر في عين الوحش ولم يَخَفْ أو يُخْفِ انتماءه إلى مصر حصراً، من دون عنصرية أو تعصب أو شوفينية، فامتلك كل أدوات الكشف مثل سابقه دوستويفسكي. ليظل قيد الشك وعدم اليقين الدائمين، وبين مطرقة العامة والدهماء والجهلة والمنحرفين روحياً وإنسانياً، وسندان أهل القمع والاستبداد والكذب والتدليس..

الروس يفخرون بدوستويفسكي، مثلما يفخر المصريون بنجيب محفوظ. ولكن عندما يصل الحديث إلى جوهر إبداعهما، والمشارط التي كانوا يمسكونها لتشريح أورام موطنيهما ومجتمعاتهما وسلطاتهما السياسية – الدينية، تنهال عليهما السهام من كل حدب وصوب. لنكتشف أن للأدب والثقافة والفن والفكر أدواراً أخرى يمكن أن تتسع، بعد الرحيل، مثل الموجات، بل ومثل العواصف والزلازل والبراكين.

كان من الصعب أن يتم تكريم “الجوكر” في الأوسكار، لأن الفيلم يقف بقوة ليفضح ليس فقط النيوليبرالية كمنظومة، وليس فقط النخب الرأسمالية وطواغيت النيوليبرالية الذين يمثلون القاطرة الوحشية التي تستعد لجر تلك المنظومة الرأسمالية – النيوليبرالية المنحطة لقرن كامل مُقْبِل، وإنما ليفضح في حقيقة الأمر أيضاً المجتمع الإنساني، والبشر كلاً على حدة، والقسوة الروحية لهم والعدمية والانحطاط الأخلاقي بالمعنى الواسع والفلسفي لكلمة “أخلاق”. ومع ذلك، يجب أن يلقى لهم ببعض الفتات من قبيل جائزة للموسيقى وأخرى لأفضل ممثل، لكي يتم تجاوز الكشف والفضيحة بسلاسة، ومن دون ضجة أو ضجيج، أو انحراف واضح يلقي بظلال الشك على معايير وتقاليد ليس بالضبط “الأوسكار”، وإنما تلك العصابات الكثيرة المتسلسلة التي تشبه التفاعل المتسلسل للأسلحة النووية، والتي تحتل أعلى قمم السلطة في المجتمع لتنتهي بأحط الأفراد الذين يمارسون نفس السلطة على بعضهم البعض وضد بعضهم البعض.

دعونا نعُد مرة أخرى إلى تصريحات وكلمات خواكين فينيكس في المناسبات الأخيرة، حيث انتقد الجوائز والمؤسسات التي تمنحها في إشارات واضحة إلى العنصرية والدناءة وانحطاط الطُّغَم الحاكمة وتدني قطاعات اجتماعية وسياسية واسعة، لنعرف كيف تنشأ العلاقة الجدلية بين الممثل وعمله الفني لتلد لنا كائنات جديدة أكثر وعياً وإنسانية، وأوسع أفقاً وطموحاً.

وقد يسعفني الوقت لأكتب بشكل أوسع وأعمق عن فيلم “الجوكر” ومنطقه الفني – الاجتماعي – السياسي – التاريخي، وعن ألوان الملابس ودلالاتها، والحركة ودلالاتها، والزمن ودلالاته، والأماكن ودلالاتها. وأكتب أيضاً عن تفاصيل الحوار وتناغمه مع الصورة واللون وبريق العين، والغبن والظلم، والأرواح المظلمة والأخرى الشفافة المنهوكة والمُنْتَهَكَة. وأكتب عن منطق حكم العالم الآن، وجوهر الاستبداد الحديث في عصر النيوليبرالية المتوحشة، وفي ظل تطور وسائط الاتصال والإعلام وانهيار قيمة الإنسان. أكتب عن منطق تطور أحداث الفيلم، وتداخلات خطوطه ومساراته في علاقتها بالتراكيب النفسية والاجتماعية والسياسية.


* صحفي وكاتب مصري

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي