"فان كوخ" ..الجمال والعبقرية في عقل معذب

2020-01-23

 زيد خلدون جميل*

يعتبر عام 2019 عاما مهما في تاريخ الفن العالمي، حيث أقيمت تسعة معارض كبرى في مدن مختلفة مثل لندن وفرانكفورت، كرست جميعها لأعمال رسام واحد، ألا وهو الرسام الهولندي فنسنت فان كوخ. وتناول كل معرض جانبا معينا من أعماله.

من النادر أن يحظى فنان في العالم بمثل هذا الاهتمام، ولكن الرسام الهولندي فنسنت فان كوخ يستحق كل ذلك، حيث إنه الرسام الأشهر في تاريخ الرسم الحديث. ولم تكن إقامة هذه المعارض بالأمر السهل، حيث أن استعارة أعمال فان كوخ لتجميعها في معرض مهمة شاقة جدا، نظرا لأهميتها وكون بعضها في حالة هشة تجعلها سهلة التلف. وهوالفنان الذي تفوق على الجميع في رسم لوحات بألوان تنبض بالحياة، وعرف كيف يفرض تأثيرا نفسيا عميقا على المشاهد. ولا يمكن تحديد أي لوحة تعتبر الأشهر من أعماله، فقد كان غزير الإنتاج، وترك عند وفاته ثمانمئة وستين لوحة وألفا وثلاثمئة رسم بالقلم، حيث كان أحيانا ينهي اللوحة الواحدة خلال يوم واحد فقط، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنه أتلف العديد من أعماله، وعرف بالرسم على لوحات سابقة له، وفي بعض الأحيان رسم على اللوحة نفسها ثلاث مرات. ولا يمكن تحديد أي لوحة على أنها الأشهر له، بسبب النوعية العالية لجميع لوحاته، خاصة تلك التي أنجزها في السنوات الأخيرة من حياته.

وتسمى المدرسة الفنية التي انتمى إليها بما بعد الانطباعية، ولكن فان كوخ لم يكن مجرد رسام عظيم، إذ أنه كان كذلك كاتبا غزيرا وموهوبا للرسائل، خاصة تلك التي أرسلها إلى شقيقه «ثيو» في باريس، التي لا تزال ستمئة منها موجودة. وسمحت هذه الرسائل أن يتابع المؤرخون تطور فان كوخ الذهني والفني.

ولد فنسنت فان كوخ في الثلاثين من شهر مارس/اذار عام 1853 في مدينة زوندرت الهولندية لعائلة ميسورة، وكان والده رجل دين، ولذلك كان للدين تاثير كبير على حياة فان كوخ، لفترة لا بأس بها. وبدأت مشاكله النفسية في طفولته أثناء وجوده في إحدى المدارس الداخلية، التي عانى فيها واحتج مطالبا العودة إلى المنزل، وأصبحت الكآبة مشكلة دائمة له، وكانت الوحدة أحد اسبابها. أما الرسم فقد كان هواية له، حيث شجعته والدته، وكذلك مدرس الرسم في المدرسة، الذي كان معجبا بجمال الطبيعة، ولكنه لم يتعلم الرسم في مدرسة مختصة أبدا، على عكس كبار الفنانين مثل بيكاسو. وسرعان ما دخل فان كوخ الحياة العملية، ففي سن السادسة عشرة وظفه عمه في شركة فرنسية شهيرة لبيع الأعمال الفنية، وبعد أربع سنوات من التدريب والعمل، أرسِلَ إلى فرع الشركة في لندن، حيث كان ناجحا هناك وسعيدا. ولكن سعادته لم تدم، إذ وقع في غرام فتاة إنكليزية رفضته مما سبب له كآبة حادة، وكانت هذه إحدى أهم المشاكل التي لازمته طوال حياته، فالرفض المستمر الذي كان يواجهه من قبل كل امرأة أحبها جعله يصل إلى حافة الجنون. ومن الممكن القول إن اضطرابه النفسي جعله أحيانا لا يميز مشاعر الحب.

ولذلك أصبح معزولا عن المجتمع وتنتابه أفكار مثالية، وقد يكون هذا سبب اهتمامه في تلك الفترة في الدين. وانتقل بعد ذلك إلى فرع الشركة في باريس، ولكنه لم يبق طويلا، حيث اخذت أفكاره الغريبة تبدو أكثر وضوحا، فكان يعترض على الاستغلال المادي للأعمال الفنية، فطرد بعد سنة.

  هما كانت مشاكل فان كوخ فإنه كان منكبا على الرسم، وأوضحت رسائله جهوده الكبيرة ليكون فنانا حقيقيا، بدون أن يعلم أنه في الحقيقة قد تجاوز ذلك بمراحل

وبدأت حياة فان كوخ التي امتازت بالفشل الدائم، ففشله في الحصول على عمل أو الدخول إلى إحدى الجامعات لدراسة اللاهوت،/ أو العثور على فتاة تحبه حطم مشاعره. وحتى عندما نجح في الحصول على عمل كداعية ديني في إحدى مناطق المناجم، فإن الكنيسة لم تتحمل تصرفاته التي شملت إعطاءه مقتنياته الشخصية للفقراء ومظهره البائس والقذر، وسكنه في كوخ صغير. وترك فان كوخ الاهتمام بالدين بعد ذلك، وآمن بالأفكار الاشتراكية، ووجوب مساعدة الآخرين.

وأصبح شقيقه ثيو عائله الوحيد، الذي كان كذلك المؤمن الوحيد بعبقريته وكان يعمل في تجارة الأعمال الفنية في باريس، وعلى اتصال دائم به عن طريق الرسائل. وبدأ فان كوخ الرسم متاخرا حيث كان في سن السابعة والعشرين. وكان في البداية يستعمل الألوان المائية، ولكن شقيقه ثيو أبلغه أنها تفتقد الحيوية، فأخذ فان كوخ استعمال الألوان الزيتية. وأراد والد فان كوخ إدخاله مستشفى للأمراض العقلية، ولكن فان كوخ تجنب الأمر، بالانتقال إلى منزل والديه وهناك أحب قريبة له، ولكنها رفضته أيضا بقسوة، ما جعله يصطدم بوالده ويغادر المنزل. وفي الواقع فإن فان كوخ دخل مستشفى الأمراض العقلية أربع مرات، خلال حياته وقضى في إحداها سنة كاملة. وعشق الرسم في الهواء الطلق، حيث رسم جمال الطبيعة الخلابة بنجاح، ومن الممكن العثور على آثار لذلك، فمثلا تم العثور على جرادة كانت على اللوحة عندما رسم عليها ولا تزال بقاياها موجودة في اللوحة حتى الآن. ولكن الجميع اعتبروا لوحاته سيئة، ولم يستطع أن يبيع شيئا يستحق الذكر، وكان أحد الأسباب اجتياح موجة الانطباعيين لعالم الفن الغربي.

وانتقل فان كوخ من مدينة إلى أخرى ومن فشل إلى آخر. وكان مدمنا على التدخين، حيث استمر في تدخين الغليون حتى آخر لحظة من حياته، وأكثر من شرب الكحول بشكل غير عادي، أما طعامه فكان سيئا. ولكن مهما كانت مشاكل فان كوخ فإنه كان منكبا على الرسم، وأوضحت رسائله جهوده الكبيرة ليكون فنانا حقيقيا، بدون أن يعلم أنه في الحقيقة قد تجاوز ذلك بمراحل. وفي عام 1886 انتقل فان كوخ إلى باريس للسكن مع شقيقه. وهناك اطلع على عدة مدارس فنية وتأثر بها، كما تعرف على بعض مشاهير الرسامين هناك مثل تولوز لوتريك وبول غوغان، وأنجز حوالي مئتي لوحة. ولكن شخصية فان كوخ المضطربة جعلت السكن معه لا يطاق، إذ أنه كان لطيفا جدا في بعض الفترات وفجاة كان يتحول إلى شخصية عدائية جدا. وكانت حدة تصرفاته السيئة قد وصلت إلى درجة أنه مُنِعَ من دخول بعض الامكنة. ولذلك غادر باريس بعد عامين، أي عام 1888، إلى منطقة أرليس الفرنسية التي وجدها رائعة. وهناك ازداد نشاطه الفني حيث رسم مئتي لوحة ومئة رسم بالقلم. وامتازت لوحاته هناك باللون الأصفر وتركزت مواضيعه على الريف في تلك المنطقة. وتعرف هناك كذلك على بعض الرسامين المشهورين، كما انظم إليه صديقه الرسام بول غوغان. وكان وجود غوغان مهما بالنسبة لفان كوخ، الذي كان يعاني من وحدة قاتلة، ولكن غوغان كان يعتبر نفسه الأفضل بين الاثنين وامتاز سلوكه بالتعجرف. ومع ذلك فقد تحمل فان كوخ صديقه حتى وصل الأمر إلى شجار بينهما في أحد الأيام، وترك غوغان صديقه. ولم يحتمل فان كوخ الوحدة وانتابته حالة مرعبة من الاكتئاب، وقام على إثرها بقطع اذنه اليسرى بكاملها وأغمي عليه نتيجة لذلك، ونقله أحد افراد الشرطة إلى المستشفى. ولكن مشكلة فان كوخ الحقيقية كانت مرضه النفسي الذي جعله يتخيل بعض الأشياء وتنتابه نوبات من الرعب، ولكنه غادر المستشفى والمنطقة ليدخل مستشفى للأمراض العقلية، وهناك استمر في الرسم وأنتج بعض أشهر لوحاته. وقام برسم لوحة لأحد الأطباء الذي لم تعجبه ورماها. وهي الآن في متحف بشكين للفنون الجميلة ويقدر ثمنها بحوالي خمسين مليون دولار.

بدأ حظ فان كوخ يتغير قليلا عام 1890، حيث أخذ بعض الخبراء يقدرون لوحاته وتمت دعوته لعرض لوحاته في بعض المعارض. وكان من المعجبين به الرسام الكبير مونيت. وفي مايو/أيار عام 1890 انتقل إلى باريس ليكون بالقرب من طبيب أوصاه البعض بمراجعته وشقيقه، ولكن حالته لم تتحسن. وفي السابع والعشرين من شهر يوليو/تموز من العام نفسه قام فان كوخ بإطلاق النار على نفسه، ولكنه استطاع المشي إلى إحدى العيادات حيث عالجه اثنان من الاطباء بدون جدوى، والتهبت جراحه وتوفي يوم التاسع والعشرين من يوليوعام 1890 ولم يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره.

اختلف الأطباء الحاليون في تحديد أمراض فان كوخ النفسية، ويوجد حتى الآن اكثر من ثلاثين رأيا مختلفا، ومنها الشيزوفرينيا وتلوث بسبب الأصباغ التي استعملها، وتأثير أحد المشروبات الكحولية التي كان يبالغ في شربها. ولكن أحد أمراضه كان على ما يبدو الكآبة الشديدة وشعوره بالوحدة واليأس من الحياة، وفشله في العثور على فتاة تبادله الحب. وقد تم العثور على مسدس قديم في المنطقة التي يقال إنه انتحر فيها وادعى أحدهم أنه المسدس الذي استعمله فان كوخ في انتحاره، بدون وجود أي دليل على ذلك. وقد عرض ذلك المسدس للبيع في أحد المزادات بمبلغ ستين ألف دولار.

توفي ثيو (شقيق فان كوخ الأصغر) ستة اشهر فقط بعد وفاة فان كوخ. ولم يكن شقيقه الآخر في حال أفضل حيث توفي وهو في الثلاثينيات من العمر. وتوفيت والدتهم بعد وفاة أبنائها. ودخلت شقيقته مستشفى الأمراض العقلية في سن السادسة والثلاثين وبقيت فيها حتى وفاتها في سن التاسعة والسبعين.

ورث ثيو جميع لوحات فان كوخ وعرضها في المعارض، وبعد وفاته السريعة تولت المهمة زوجته، وكان نجاحها ملحوظا، حيث حظيت اللوحات على الإعجاب. وقامت الزوجة بنشر أغلبية رسائل فان كوخ إلى زوجها (شقيقه) على مراحل حتى عام 1914. وقامت كذلك بنقل رفات زوجها ليكون إلى جانب قبر فان كوخ. وأما ابنها، فقد تابع جهود والدته ونجح في إقناع الحكومة الهولندية في تأسيس متحف فان كوخ في ستينيات القرن الماضي وأصبح أحد أشهر المتاحف في أوروبا.

لقد كان لفان كوخ تأثير كبير على كبار الفنانين الذين برزوا بعد وفاته مثل هنري ماتيس وبيكاسو وديفيد هوكني، وتأثرت مدرسة الانطباعية الألمانية جذريا به، حيث كانت شهرته في ألمانيا والنمسا أحد أهم أسباب انطلاق اسم فان كوخ في العالم.

ولم تكن السينما الأمريكية لتفوت فرصة استغلال شهرة فان كوخ، فانتجت أحد أشهر الأفلام في تاريخ هوليوود عام 1956 بعنوان «التوق الشديد للحياة» من تمثيل النجمين كيرك دوغلاس (في دور «فان كوخ») وانتوني كوين (في دور بول غوغان)، وقد يكون هذا الفيلم الأشهر للممثل كيرك دوغلاس، حيث بدا شبيها بالرسام الكبير وأجاد دوره ببراعة. وقام الملحن والمغني الأمريكي المعروف دون مكلين بتلحين أغنية جميلة عن فان كوخ بعنوان «فنسنت» عام 1972.

 

  • باحث ومؤرخ من العراق






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي