ظاهرة الشر في رواية "سيد الذباب" لوليام غولدنغ

2020-01-12

مورين كيلي*

يخيم على رواية «سيد الذباب» لوليام غولدنغ اهتمام بظاهرة الشر عند الإنسان، وهو موضوع معقد ينطوي على دراسة ليس للطبيعة الإنسانية فقط، ولكن أيضا لأسباب وأثر وخطاب الشر. وهذا يتطلب كذلك ملاحظة قريبة لوسائل وأفكار الجنس البشري المستخدمة في مكافحة الشر، وما إذا كانت تلك الوسائل فعالة. ويعالج غولدنغ هذه الموضوعات من خلال مجاز متشعب يتخلل الرواية.

عندما ظهرت رواية «سيد الذباب» لأول مرة عام 1954 وصف غولدنغ ثيمة الرواية في حفل إطلاقها مؤكدا أنها «محاولة لمتابعة وتقصي عيوب المجتمع، حتى الوصول إلى عيوب الطبيعة الإنسانية». وفي مقالة له، نشرها عام 1982 بعنوان «هدف متحرك»، قال ببساطة: «إن موضوع «سيد الذباب» هو الحزن، الحزن المفجع، الحزن، الحزن». وتنتهي الرواية طبعا بحزن رالف على علامة الشر المطبوعة في قلب كل إنسان، وهو شر نادرا ما اشتبه بوجوده قبل أن يشاهد آثاره على أصدقائه ومؤيديه.

 فطلاب المدرسة سابقا جاهدوا بدون تفكير للسيطرة على الآخرين، الذين لم يكونوا من مجموعتهم. واكتشفوا في داخلهم الرغبة بإلحاق الوجع والألم بغيرهم. وقد استمتعوا بما رافق ذلك من إحساس بالسلطة والقوة. وعندما توجب عليهم الاختيار بين دافع منطق التحضر والدافع الذاتي للتوحش، اختاروا إهمال التحضر الذي مثله رالف.

هذا الاختيار نفسه يتكرر في كل أرجاء العالم وفي كل العصور – وهو مصدر الفاجع الذي يبحث عنه غولدنغ لينقله إلينا. ويختار غولدنغ أن يضع أولاد المدرسة الأبرياء في بيئة مغلقة داخل جزيرة استوائية غير مأهولة، ليوضح فكرته وهي كالتالي: إن التوحش ليس من خصال شعب معين في بيئة مخصصة، ولكنه موجود في داخل كل إنسان، كأنه بقعة تلوث الجانب النبيل من الطبيعة البشرية، إن لم يكن بشكل أداة يتحكم بها. ويرسم غولدنغ صورة أصغر الأولاد وهو يعبر، ببراءة وعفوية، عن رغبات مدمرة بالسيادة والتحكم، مثلما فعل جاك هو وجماعته، حينما انشغلوا بصيد الخنزير، ثم لاحقا كما كان يفعل رالف.

 إن الحرب التي يشنها الكبار لم تتسبب بعزل الأولاد في الجزيرة فقط، بل فجرت مشاعر الرغبة بالسيطرة على الآخر.

وبإطلاق مشاعر حب السيطرة، وجد الأولاد أنفسهم، وهذا يدعو للسخرية والدهشة، أنهم بقبضة قوة لا يمكنهم فهمها ولا الإقرار بها.

 إن رواية «سيد الذباب» إشهار لأفكار سيمون الخيالية عن «الوحش الذي كان شيئا يمكنك صيده وقتله». وقاده ذلك للسخرية من الأولاد الذين أطلقوا سراح وحشيتهم من الداخل إلى الخارج، وكأنها حيوان أو مخلوق مرعب كان مختبئا في أعماقهم. وقد وصل سيمون لرؤية مفادها أن الشر ليس من مكونات الطبيعة البشرية ببساطة، ولكنه عنصر فعال يحتاج للتعبير عنه.

منافذ العنف

وهنا علينا ملاحظة أن معظم المجتمعات، تخترع أساليبها لتحويل المشاعر العدائية إلى أعمال أو مشروعات منتجة. مثلا في الجزيرة نجح صيادو جاك بتوفير اللحوم للمجموعة، لأنهم أصغوا لاستعدادهم الداخلي لارتكاب العنف. وهذا العنف استجابة منطقية لاحتياجات المجموعة «إطعامها»، وهو ما ينتج عنه أثر إيجابي أو حصيلة.

وعموما عندما يفقد كل من العنف المحرض، والنتيجة المرغوبة أي قيمة أخلاقية أو اجتماعية وراء ذاته «بخلاف وجوده المتعين»، كما هو حال الصيادين، يتحول إلى شر وتوحش وتشيطن «وساوس شيطانية مؤذية». ويبدو أن العنف يعبر عن وجوده في المجتمع الحديث من خلال مؤسسة الجيش والسياسة. وهكذا طور غولدنغ هذه الثيمة، بنزوع شخصياته لتأسيس جماعة ديمقراطية.

 وهي جماعة تقع تحت مؤثرات العنف اللفظي، كما هو الحال في لعبة جاك للسيطرة والتسيد على جيش من الصيادين. وفي النهاية ينجم عن تلك المسرحية تكوين ديكتاتورية عسكرية مصغرة. وتنحو جماعة الأولاد الصغار لتأخذ صيغتين متقابلتين هما على طرفي الطيف المدني، من التجمعات القبلية السابقة لتشكل اللغات، وحتى المؤسسات الحكومية الحديثة. وهذا يعني أن المنصات السياسية تتبدل على مرّ السنوات، لكن تبقى ديناميكيتها على ما هي عليه.

    ويتابع غولدنغ أثر الخوف على الأفراد والجماعات. بالنسبة للأفراد، يرى أن الخوف يحطم الواقع ويشوهه، كما حصل حينما أصاب الرعب سام وإيريك لدى اكتشاف جثة جندي ميت

وإن وضعت بعين الاعتبار الأسس العاطفية لاختيار الأولاد للقائد: ستجد أنهم أولا صوتوا لرالف، ليس لأنه يمثل المهارات القيادية، ولكن بسبب الكاريزما وبسبب حيازته لهذه الصفة. ولاحقا انفصلوا عنه – وعن الديمقراطية المتعقلة التي بناها – وانضموا إلى قبيلة جاك إعجابا منهم بالطريقة المتبعة في حياتهم، بما تتضمنه من أصباغ الحرب، وكذلك طقوس الرقصات الغريبة. لقد كانت هذه الطريقة مسلية وجذابة أكثر من سواها، واختيار جاذبية قبيلة جاك يدل على مستوى خطير من فرض الذات بأساساتها العاطفية. وبالاتكال على العاطفة لتحديد الشكل السياسي للجزيرة، عرّض الأولاد أنفسهم لاحتمالات العنف، فالعنف موجود حتما حيثما توجد العاطفة.

مع ذلك إن عقلية جاك، لو أخذتها بنطاقها الأوسع، ليست مسلية. وألعابها تحاكي الحروب، ويتضح هذا المفهوم في خاتمة المطاف عندما يصادف رالف الضابط على الشاطئ، فهو لا ينتبه أولا لوجه الضابط، ولكن لبذته ومسدسه، أو لعلامات الجماعة المخصصة «قبيلته إن صح التعبير».

 كما أن عناصر الزينة الموجودة على بذته ترمز لأصباغ حربه. ولا شك أنه سيتصرف بالطريقة نفسها التي يطارد بها الإنسان عدوه، كما فعلت قبيلة جاك مع رالف.

أثر الخوف

ويتابع غولدنغ أثر الخوف على الأفراد والجماعات. بالنسبة للأفراد، يرى أن الخوف يحطم الواقع ويشوهه، كما حصل حينما أصاب الرعب سام وإيريك لدى اكتشاف جثة جندي ميت. وهذا يضع تجربتهما تحت المجهر، منذ لحظة رؤية حركة باراشوت وسماع صوته، وحتى المطاردة على سفح الجبل أثناء فرارهما.

 وعندما استمع الأولاد الآخرون لحكاية سام وإيريك، بدأت ديناميكية خوف المجموعة تفعل فعلها. لم يجتمع الأولاد معا للتغلب على حالة الخوف في الاتحاد، ولكن سمحوا لأسوأ ردة فعل ممكنة أن تطفو على السطح وأن تهيمن، وتوزعوا على جماعات متعادية، وشرعوا بقتل بعضهم بعضا في نوبة رعب وتوحش مفاجئة.

الكلام والصمت

يوفر غولدنغ علاجا حاسما للموضوع الذي يتعلق بدور الكلام في الحضارة. ويلجأ مرارا وتكرارا للتواصل اللفظي، باعتبار أنه أخص خصائص الحضارات. وهذا يعني ضمنا أن المجتمع البدائي غير ملفوظ أو أنه صامت.

وعلى الرغم من ضجة الحيوانات في الغابة، وهي مكون كلي، ترسل الغابة نوعا من أنواع الصمت الذي يجده حتى جاك الصياد استفزازيا.

 وفي الحقيقة كل الأولاد وجدوا الصمت خطرا يهددهم، فقد أصبحوا مضطربين عندما سقط الصبي المتحدث حامل البوق في الصمت.

ويلعب البوق دورا مفتاحيا في هذا الموضوع، لأنه يرمز ليس لسلطة تخولك بالكلام خلال الاجتماع، ولكن أيضا لسلطة الكلام، وهي إمكانية تفصل البشر عن الحيوانات. وبعد موت بيغي وتكسير البوق «حل الصمت العميق» كما لو أن بيغي قدّم آخر دليل تبقى من الثقافة الإنسانية – أو الإنسانية ذاتها – على الجزيرة. والتواصل اللفظي يكون ضروريا لتطور الفكر التجريدي «لو كان لدى المرء وقت للتفكير» كما يقول رالف. وهكذا توفر الحضارة مؤسسات يمكن للأفراد فيها وهب أنفسهم للنشاط العقلي.

وقد شيد سيمون مكانا من هذا النوع في بقعته السرية في الغابة، وهناك اكتشف الصمت الضروري واللازم لحضانة جانبه المتوحش.

وكان هو الصبي الوحيد الذي فهم الهوية الحقيقية للوحش المرهوب الجانب، والولد الوحيد الذي يمكنه التكلم مع «سيد الذباب». ولتحقيق شروط هذه المحادثة، توجب على رأس الحيوان الأسير أن يضع حدا لآخر أشكال الصمت، وهو الموت.

 وربما كان غولدنغ يرى في الصمت مصدر خطر جسيم، لأنه يدل على السكون المطلق، وعلى نهاية كل آمالنا. وكلما كانت السلطة الرمزية للبوق حية في أذهان الأولاد، يبقى لديهم أمل بمواصلة الحياة في مجتمعهم الصغير وبشكل سلمي ومثمر، لكن بضياع خطاب هذا النظام ينهار تأثير سلطة رالف بطبيعتها الإنسانية والرحيمة على الآخرين.

في النهاية، يوظف غولدنغ خوف الأولاد من الوحش الأسطوري لتبرير افتراضاتهم أن الشر ينشأ من قوى خارجية وليس من أنفسهم.

وهذا الوحش المخيف يأخذ في البداية في خيالهم شكل حيوان أفعواني، يتنكر بشكل نباتات الغابة. ولاحقا ينظرون لاحتمال نهوض هذا المخلوق المرعب من البحر أو بشكل شبح من الفضاء.

 وعندما يجدون العسكري «المظلي»، الذي هبط على الجبل، ميتا، يتأكد الأولاد أن لديهم دليلا على وجود هذا الوحش.

وفي الحقيقة هناك وحش يجوب أرجاء الجزيرة، ولكن ليس بالهيئة التي تخيلها الأولاد. ويبدو أن غولدنغ أراد أن يوضح في هذه الرواية الجانب المظلم من الطبيعة البشرية، وأن يؤكد أن كل فرد من أفراد النوع البشري لديه جانب مظلم. ويعبر هنا الأولاد عن مصدر اندفاعاتهم السلبية «المتوحشة»، بشكل حيوان ما أو ربما مخلوق خيالي يسكن الجزيرة.

 ومع ذلك، باندماج الأولاد مع شخصية الوحش، وارتكاب أفعال شائنة واندفاعية، يتبين أنه لم يكن هناك وحش مستقل ومنفصل عنهم.

 

  • كاتبة متخصصة بوليام غولدنغ









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي