في منزل جورج شحادة.. الشاعر المُمتزِج بالهواء

2019-10-14

خالد النجّار*

أتذكّره بعد مُكالَمة هاتفيّة سريعة معه، ومن خلال بعض استفساراتي التي بدا خلالها متوجّساً من أن أكون مجرّد صحافيّ يريد حواراً معه، وبالتالي اقتحام عزلته عليه؛ ذلك أنّ الشاعر الفرنسيّ من أصل لبنانيّ جورج شحادة (1905 – 1989)، هو من ذاك الجيل الذي يتجنّب الحوارات الصحافيّة، تماماً كما الشاعر الفرنسيّ سان جون بيرس الذي ذهب بعيداً في هذه المسألة، ولم يُجرِ على الإطلاق أيَّ حوارٍ صحافيٍّ في حياته. الاستثناء الوحيد الذي انخرط فيه، ولم يكُن حواراً صحافيّاً في المحصّلة، كان لقاؤه بالمصادفة مع الشاعر اليونانيّ جورج سيفيريس في أحد فنادق واشنطن الفخمة يوم 27 تشرين الأوّل (أكتوبر )1957، ثمّ دوَّن سيفيريس، المأخوذ بكتابة يوميّاته، ذلك اللّقاء اليتيم.

قلتُ لجورج شحادة على الهاتف مُستبقاً ردّه: نقلت ديوانك “أشعار” إلى العربيّة منذ حوالى السنة، وأريد أن أسألكَ عن بعض النقاط الغامضة فيه، والمُساعَدة منكَ على فهمها. فجأة تحوّلت نبرة صوته على الهاتف، وبدا مرحّباً بي ومتعاوناً على تحديد موعد اللّقاء.

وهكذا ذهبت في ذلك الشتاء من أوائل الثمانينيّات من القرن الفائت لزيارة جورج شحادة في شقّته في شارع الآباء القدّيسين في باريس، وبيدي مخطوط الترجمة المُعَدّ على الآلة الكاتبة. كنتُ وقتها قد حدّدتُ النقاط اللّغويّة التي أريد مُراجعتها معه، والمتعلّقة بقصائده التي تبدو يسيرة وعصيّة على الترجمة في آن معاً.

لم أكُن يومها قد تخلّصت من هوس الدقّة في النقل الذي كثيراً ما يأتي بنتائج عكسيّة، كما هو الشأن في الترجمات الأكاديميّة، فهي من الدقّة بحيث تقضي على حيويّة النصّ المنقول.. تقتل روحه، إيقاعه وتفضي إلى نصٍّ قاموسيّ جافّ، في حين أنّ المهمّ في الترجمة الأدبيّة، هو نقل حياة النصّ، نبضه وتوتّره، نقل الإيقاع والدفق الحارّ فيه؛ باختصار منْح النصّ حياة جديدة في اللّغة المنقول إليها، فالترجمة الأدبيّة كالقراءة، هي إعادة خلق، تقوم على المُفارَقة المعجزة المتمثّلة في أن يكون النصّ هو وليس هو في آنٍ واحد. فكّرتُ أنّ ما يجعل ترجمتي حيويّة، هو أنّها تمّت في سياق القراءة، لأنّه إذ ذاك أكتشف كمُترجم لذّة النصّ من خلال لغته، ومن ثمّ التعبير عنها بلغتي… كنتُ إذاً، أقرأ النصّ بلغته وأحسّ به في لغتي.

مثل مُمَثّلٍ تراجيديّ

ها أنا في تلك الظهيرة مع جورج شحادة في بَيته الباريسي. شقّة صغيرة ذات أرضيّة خشبيّة، وتقع في الطابق الأوّل من بناية فرنسيّة قديمة تعود عمارتها إلى القرن التاسع عشر. والبناية مميَّزة بنوافذها ذات الحديد المشبَّك، والتي كثيراً ما صوَّر على غرارها هنري ماتيس في لوحاته.

لم يكُن في البَيت أحدٌ سواه. فتحَ لي الباب وبعد ترحيبٍ قصير، سار أمامي إلى الصالون. بَدت لي الشقّة صغيرة أكثر وتغمرها بعض الظلال الداكنة أو شبه المُعتمة. كان وقع حذائه على الأرضيّة الخشبيّة يزيد من عتمة الغرف وحشةً. كان يتحرّك بلباسه الأسود، مثل مُمَثِّلٍ تراجيديّ داخل مسرحيّة غامضة. يتحرّك بنَوعٍ من التوتّر، فهمتُ بعدها كيف أنّ مزاجه الدينامي أخذه إلى حديثٍ يرثي به حال العرب. كان في ذلك كما لو أنّه يُواصل حواراً داخليّاً بدأه قبل أن يستقبلني، أو ربّما حضوري كعربيّ أثار فيه هذا الأمر. لم يترك لي فرصة أن أسأله، كان يتحدّث بمرارة عن العرب، هكذا بصيغة الجمع. يتحدّث بحماسة وبفرنسيّة تتخلّلها بعض كلمات وعبارات باللّهجة اللّبنانيّة قال:

-يا عيب الشوم…

واستمرّ بالفرنسيّة:

-صار العربي لا يحبّ الحبّ، يحبّ غريزته ويتبع رائحتها، ويفعل أيّ شيء مقابل ذلك. في البار يسحب ساعته الذهبيّة من معصمه ويقدّمها لأيّ امرأة أرادها في تلك اللّحظة. وأشار بيدَيه النحيلتَين في الهواء بحركة تقلِّد انتزاع الساعة من يده. لمحتُ ساعةً شبه مُتدلّية من معصمه النحيل. ظللتُ صامتاً أتأمّله، لم أرد مُقاطعته… تحدَّث عن هول الحرب اللّبنانيّة وهجرة اللّبنانيّين قال: لي قريبة لها ابن في العشرين، أرادت أن تبعده عن الحرب، وفي طريقها، مرّت العائلة بقبرص، وهناك مات الابن بحادث درّاجة ناريّة… رهيب… نحن لا نستطيع أن نفعل شيئاً إزاء إرادة الربّ.

كان يتنقّل بين الموضوعات. قال جئنا إلى فرنسا بسبب ظروف الحرب في لبنان. زوجتي افتتحت غاليري وتبيع اللّوحات. لم يكلّمني، لا عن الشعر، ولا عن المسرح.

قلتُ في نفسي هذا هو جورج شحادة الذي كنتُ صنعت له صورة أخرى، لا علاقة لها بالرجل الذي أشاهده أمامي؛ صورة خياليّة لكائنٍ بعيد وناعم وغامض، هي مزيج ممّا يوحي به شعره، ومن الصور الفوتوغرافيّة، وهو شابّ أنيق شديد النحول. هناك أيضاً صورة له بالأسود والأبيض مع جماعة مجلّة “شعر”، يظهر فيها بمَلامِحه الدقيقة وقسمات وجهه النبيل، تلك القسمات التي اختفت اليوم. تذكّرتُ نجيب محفوظ الذي رأيته قبل ذلك بأشهر قليلة في القاهرة، له السحنة النبيلة نفسها، وإن كان هو لا يشبهها.

وجوده أمامي جعلَ الصورة المتخيّلة التي صنعتها له تنزاح، تتلاشى في السديم، وأُدركُ نظريّاً أنّ النصَّ والشاعرَ مُختلفَان. لكلٍّ عالَمه. بيد أنّ ثمّة ظلالاً من النصّ تنسحب على الشاعر، تلتصق به.. نعومة شعره الذي يمضي فيه إلى أقاصي البراءة، يُقابلها رجلٌ متوتّر ، حادّ، لا يكفّ عن الحركة والكلام. رجل نحيف، لطيف من غير مُجامَلة. تشتعل عيناه وراء زجاج نظّارتَين سميكتَين بإطارهما الأسود؛ وإذ يتكلّم، يهتزّ بجسده كلّه. يرفع يدَيه في الهواء. لا شيء يدلّ على تلك الأشعار السرياليّة الغنائيّة، وما فيها من نعومة، الأشعار التي تحتشد بكلّ أشياء الطفولة التي هي مادّة شعره وجوهره.

استطاع جورج شحادة في قصائده الأولى تجسيد الضوء الكَونيّ الذي ينبثق من أعماق الطفل فيه، والذي يُصاحِب الإنسان مدى حياته، والذي إذا ما أضاعه، يكون قد أضاع نفسه. حافظَ شحادة على الضوء المُبهر السعيد الذي يتجلّى في قاموسه الشعريّ: اللّيل، أوراق الأشجار، القوارب، الجنون، الشمس، شموع الكنائس النذريّة، حدائق الفجر، ورود الإسكندريّة، الجبال التي تسير كالبشر… وخيالات القدّيسين التي ترتعش مع شعلات الشموع العسليّة فوق جدران طفولة لم يُغادرها أبداً.

أتذكّر، ساد صمت بيننا، اعتدلَ بعده في جلسته وسألني أخيراً عمّا أُشكِل عليّ من شعره. قال بالفرنسيّة: ما هي النقاط التي أَشكلت عليك؟ أجبتُ: هي صِيَغُ تعابيرٍ تحتمل أوجهاً مُختلفة. فتحتُ صفحات الكِتاب وقرأتُ عليه الصِّيغ التي بدت لي غامضة. شرحَ

هو بسرعة معاني تلك التراكيب. كان يتكلّم، وكنتُ أدوّن ملاحظاته.

سألته بعدها عن طفولته في الإسكندريّة، فقصائد شحادة هي طفولته. جاءت عائلته من لبنان. كانوا يسمّونهم الشوام. تذكّرتُ أبي كان يقول أيضاً: الشوام. وفي أميركا يسمّونهم السوريّين.

 

كان شحادة في العشرين وهو مثل رامبو وُلد شاعراً كبيراً.. لم تمحه الفرنكوفونيّة، كما هو اليوم شأن الكثير من الفرنكوفونيّين المُستلَبين ثقافيّاً

جورج شحادة إذاً، كان ينتمي إلى تلك العائلات والنّخب الشاميّة التي هاجرت من لبنان في القرن التاسع عشر إلى مصر: جرجي زيدان، فرح أنطون، شبلي الشميّل، أديب إسحاق، الشقيقان تقلا…إلخ. استعدتُ في داخلي مناخات الإسكندريّة الكوسموبوليتيّة، إسكندريّة لورانس داريل التي أنجبت بعض أهمّ شعراء القرن العشرين.

قلتُ له: عشتَ في اسكندريّة أوائل القرن العشرين؛ كانت حينها ما تزال تحتفي بشعريّة اليوناني قسطنطين كفافيس وشعريّة الإيطالي جوزيبي أونغارتي… قاطَعني مُكملاً: والكاتِب جان ديديرال Jean Dideral، كان زميلي في المدرسة. كنّا في الفصل نفسه. كان يجلس بجانبي على المقعد نفسه، وأشار بيدَيه في الهواء، وهو ينطق بذلك.

ومن دون أن أتكلّم أو أطرح أيّ سؤال آخر، انطلقَ جورج شحادة يروي قصّة بداياته الشعريّة وعلاقته بحلقة المجلّة الفرنسيّة الجديدة nrf..، بأندريه جيد الذي يَذكره بكثيرٍ من الاحترام. لم يتحدّث عن قراءاته الشعريّة، ولا عن ينابيع إلهامه.. قال عن هذه البداية:

-كنتُ في العشرين من عمري، وكنتُ أيّامها أعمل في مفوضيّة الشرطة في بيروت، عندما أرسلتُ أشعاري الأولى إلى المجلّة الفرنسيّة الجديدة. بعد مدّة وصلتني رسالة إعجاب من أندريه جيد. لم أكُن أتوقّع يومها، وأنا أضع قصائدي في مغلّف وأودعها صندوق البريد في بيروت، أنّها ستلقى كلّ هذا الإعجاب والحماسة من جانب الشعراء الفرنسيّين، فقد كتبَ لي أندريه جيد رسالة جوابيّة مُحتفياً بي، وفتحَ لي صفحات المجلّة الفرنسيّة الجديدة التي كان قد أسَّسها.

مُقارَنة لاواعية مع رامبو

تذكّرتُ ما كَتبه شعراء فرنسا آنذاك، أولئك الذين احتفوا بجورج شحادة ذاك الشاب المُعجزة؛ لعلّها مُقارَنة لاواعية مع رامبو. فقد كان شحادة في العشرين. وهو مثل رامبو وُلد شاعراً كبيراً. في تلك اللّحظة فهمتُ صمته الشعري الذي استمرّ أكثر من ثلاثين سنة، إلى أن أصدر في الثمانينيّات من القرن الفائت كِتاب “السابح بحبٍّ وحيد”. نعم، النجاح المبكّر قد يقتل الكاتِب…. ثمّ قال:

-أنا لا أجلس لأكتب الشعر، يأتيني الشعر وأنا أتحرّك، أسير داخل الغرفة، ثمّ أجلس لأدوّن القصائد. يأتيني الشعر وأنا أمشي.

بدأ ضوء المساء البرتقالي الكابي يغمر الصالون. غبت قليلاً. صمتَ هو أيضاً، كما لو أنّه استنفد كلّ ما يريد أن يقول، وقام فجأة وجلس بجانبي على الكنبة السوداء، ونظرَ إلى ديوانه المفتوح فوق ركبتي، وقبل أن أسأله، سألني:

-ما الذي يعجبك في هذا الديوان؟ أيّ مقطع؟ قلتُ له أفضّل البدء من القسم الثاني من الديوان. قال بالفرنسيّة:

Tu es sur le bon chemin، أي ما معناه أنتَ على الطريق الصحيح.. واستمرَّ:

-تدري لو كتبتُ بالعربيّة، لكنتُ مثل المتنبّي.

لم أَستسغ هذه المُقارَنة. تفاجأتُ. تمعّنتُ في وجهه. كلامٌ يوحي بأنّ لشحادة إجلالاً كبيراً لنفسه، واعتزازاً كبيراً بالشعر العربي القديم، بإرثه الثقافي، وبعروبته. لم تمحه الفرنكوفونيّة، كما هو اليوم شأن الكثير من الفرنكوفونيّين المُستلَبين ثقافيّاً. سألني هل تكتب الشعر؟. أجبته: نعم، ولكنّي لم أنشر أيّ كِتاب بعد. قال: إذا فكَّرتَ في نشْرِ مجموعةٍ شعريّة، اجعل عنوانها شعر أو قصائد. الأشياء البسيطة هي الأكثر عُمقاً وشاعريّة.

لم يسألني أن أقرأ له شيئاً من القصائد الصغيرة التي كنتُ أكتبها.. ثمّ أخذَ كِتابه من يدي، وكتبَ لي إهداءً مُقتضباً ووقَّع اسمه باللّغة العربيّة. خرجتُ إلى الشارع. كانت الشوارع تلتمع ببقايا مطر خفيف، وضوء المساء البرتقالي فوق واجهة كليّة الطبّ. اتّجهتُ يميناً مارّاً بواجهة مجلّة “نوفيل ليتيرير” المُحاذية لبَيته في اتّجاه شارع سان جيرمان. غرقتُ في حركة العالَم وصخبه. كنتُ كما لو أنّي غادرتُ على جناح السرعة مَسرحاً قاتِماً أو صالة سينما مُظلمة.

جورج شحادة هو الذي قال: مَن يَحلم يمتزج بالهواء، ولقد بدا لي بعد ذلك مُمتزِجاً بكلّ شيء.

 

(*) شاعر وكاتِب من تونس

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي