ما مخرج تركيا من معضلة عجز الحساب الجاري المزمنة؟

2019-10-05

أحمد مصبح -  على الرغم من جدلية الآثار السلبية أو الإيجابية المتعلقة بعجز الحساب الجاري، الذي يشير كمفهوم اقتصادي إلى أن التدفقات النقدية الصادرة من الدولة أعلى من التدفقات النقدية الواردة إليها، والتي تعتبر المعاملات التجارية وما ينتج عنها من تدفقات أحد أهم مكوناته، فالدول تعاني من العجز إذا كانت قيمة فاتورة وارداتها من السلع والخدمات أعلى من صادراتها.

ويشهد الحساب الجاري أيضاً عجزاً حين يتجاوز استهلاك الدولة إنتاجها؛ أي إنها تنفق أكثر مما تكسب، وهذا يعني أن الدولة تستهلك كامل إنتاجها وتقترض المزيد لشراء إنتاج إضافي.

في هذا السياق يعتبر عجز الحساب الجاري واحداً من المشاكل المزمنة التي يعاني منها الاقتصاد التركي؛ حيث ارتفع من 5.6% (كنسبة من إجمالي الناتج المحلي) في العام 2017، ليصل إلى 6.7% مع نهاية العام 2018، ومن ثم أخد في الانحسار التدريجي في الأشهر الثمانية الأخيرة، مستفيداً من ارتفاع حجم الصادرات التركية في تلك الأشهر، بنسبة فاقت 5%، وبقيمة إجمالية 117 مليار دولار، في حين بلغت نسبة تغطية الصادرات للواردات 86%.

تساؤلات وعوامل مؤثرة
فما هي جذور المشكلة المتعلقة بعجز الحساب الجاري في الاقتصاد التركي؟ ولماذا ينظر لعجز الحساب الجاري على أنه أحد أكبر المشاكل التي تواجه الاقتصاد التركي؟ وهل مشكلة الحساب الجاري ناتجة عن سوء إدارة الملف الاقتصادي من طرف الحكومة التركية أم أنها أمر هيكلي لا يمكن تجنبه؟

"الخليج أونلاين" يسلط الضوء في هذا التقرير التحليلي على أهم العوامل التي تؤثر في الحساب الجاري للدول؛ عجزاً أو فائضاً.

سعر الصرف
كلما كان سعر صرف العملة المحلية منخفضاً ومستقراً انعكس ذلك إيجابياً على مكانتها التنافسية على صعيد التصدير؛ ومن ثم تقليل عجز الحساب الجاري، من خلال ما يساهم به في خفض تكاليف التصدير وبالتالي تقلص في عجز الحساب الجاري.

ولكن تأثير سعر الصرف على قيمة الحساب الجاري يعتمد بصورة كبيرة على نمط الاستهلاك ونوعية سياسة التصنيع المتبعة داخل الدولة.

فعلى سبيل المثال اعتماد الدولة على سياسة التصنيع في القطاعات التقنية، وذات القيمة المضافة العالية، يسهم في تقليل حجم الواردات، ومن ثم تقليل عجز الحساب الجاري.

وعلى النقيض تركيز الدولة على التصنيع والإنتاج في القطاعات الاستهلاكية منخفضة القيمة المضافة، والتي تتطلب حجماً أكبر من المواد الخام المستوردة، يزيد من عجز الحساب الجاري.

حجم التدفقات النقدية
كلما ارتفع حجم التدفقات النقدية الوادرة؛ مثل الاستثمارات المباشرة طويلة الأجل، انعكس إيجاباً على توازن الحساب الجاري.

ولكن إن كانت الدولة تعاني من عدم استقرار في مؤشراتها أو بيئتها الاستثمارية وجدت صعوبة في جذب الاستثمارات للحساب الرأسمالي، ومن ثم تفاقم مشكلة عجز الحساب الجاري.

وعليه إذا كانت الدولة تعاني من عجز في حسابها الجاري فيجب عليها موازنة ذلك العجز بتدفقات مساوية في الحساب الرأسمالي.

سعر الفائدة والتضخم

كلما انخفض سعر الفائدة ارتفعت وتيرت الاستثمارات وزدات الفجوة بين الاستثمار والادخار، الأمر الذي يؤثر على المدى المتوسط سلباً في الحساب الجاري؛ فانخفاض حجم الادخار يفاقم من عجز الحساب الجاري من خلال توجه الدولة والقطاع الخاص للاقتراض لتمويل المشاريع.

إن الارتفاع في المستوى العام للأسعار سـيجعل الطلب الأجنبـي علـى الصادارات يـنخفض تدريجياً، في حين يـزداد الطلب المحلي على الاستيرادات؛ لكونها أصبحت أرخص نسبياً من بدائلها المحلية، الأمر الذي يقلل ميزة البلد التنافسية المتعلقة بالتصدير، ويرفع فاتورة الواردات، خاصة في المجتمعات الاستهلاكية، ومن ثم زيادة في عجز الحساب الجاري.

الديون الداخلية والخارجية

ارتفاع حجم الديون وفوائدها يزيد من حجم التدفقات النقدية الخارجة من الدولة، ويزيد الأعباء على العملة المحلية، الأمر الذي يزيد من عجز الحساب الجاري.

كما أن توفر المواد الخام والموارد الأساسية التي تعتبر ركيزة في عملية التصنيع والإنتاج؛ مثل البترول والغاز والحديد، يؤثر إيجابياً في الحساب الجاري، من خلال دورها في خفض حجم وفاتورة الاستيراد.

نوع الواردات

وكلما كانت السلع المستوردة (سلع أولية أو متوسطة) تستخدم في عملية التصنيع محلياً انخفض عجز الحساب الجاري، بخلاف أن تكون الواردات معظمها سلعاً استهلاكية، فعدم اهتمام الدولة بالتصنيع والإنتاج، وارتفاع النمط الاستهلاكي للمواطنين، يفاقم من عجز الحساب الجاري.

في ضوء العوامل السابقة المؤثرة في الحساب الجاري يُمكن بناء تصور متكامل حول طبيعة المشكلة، وكيف تمكنت الحكومة التركية من إدارتها خلال السنوات الماضية، قُسم أداء هذا المؤشر إلى أربع فترات زمنية.

الفترة الأولى (2003-2008)
قبل استلام حزب العدالة والتنمية الحكم كانت الدولة التركية لديها فائض في الحساب الجاري وصل إلى 2%، وهذا بالطبع ليس مؤشراً على كفاءة الدولة في إدارة الملف الاقتصادي بقدر ما هو دليل ضعف معظم القطاعات الاقتصادية في تلك الفترة.

فانهيار العملة المحلية، وانخفاض مستوى الدخل، وحالة الانكماش التي كان الاقتصاد التركي يعاني منها، خاصة مع تطبيق برامج البنك الدولي، انعكست بصورة كبيرة على القدرة الاستهلاكية للسوق التركي، ومن ثم انخفاض مستوى الاستيراد المتعلق بالسلع الاستهلاكية، وبطء حركة الإنتاج، وغيرها من العوامل التي انعكست على الحساب الجاري لتجعل رصيده فائضاً.

مع استلام حزب العدالة والتنمية للحكم وبدء تطبيق الإصلاحات الاقتصادية تمكنت الحكومة التركية من جذب استثمارات أجنبية مباشرة؛ مكنتها من تمويل نصف عجز الحساب الجاري، حيث ارتفع حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة من 1.7 مليار دولار في العام 2003، ليصل إلى قرابة 22 ملياراً مع نهاية العام 2007.

إلى جانب الإصلاحات الاقتصادية الداخلية كان تدفق الاستثمارات في تلك الفترة نتاجاً لسياسة خصخصة الشركات العامة في قطاعات مختلفة؛ مثل الاتصالات (شراء شركة oger اللبنانية لشركة الاتصالات التركية مقابل 6.5 مليار دولار)، والتبغ بعد استحواذ شركة "بريتش أمريكان" على ملكية شركة التبغ التركية مقابل 1.7 مليار دولار، وغيرها من القطاعات.

إلى جانب ذلك ساهم نمو الاقتصاد العالمي في تلك الفترة في توجه التدفقات النقدية إلى الدول الناشئة عموماً، ودول الشرق الأوسط بصفة خاصة.

علاوة على ذلك ساهم انخفاض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة خلال تلك الفترة في تدفق الأموال إلى المحافظ الاستثمارية التركية، الأمر الذي كان له دور ملحوظ في تغطية نسبة كبيرة من عجز الحساب الجاري الذي بلغ كمعدل سنوي خلال تلك الفترة 4.45% (من إجمالي الناتج المحلي).

الفترة الثانية (2008-2010)

خلال هذه الفترة ألقت الأزمة المالية العالمية بظلالها على الأسواق العالمية، وكان لها تأثير كبير في مؤشر الاستثمارات الأجنبية في الدول الناشئة، ومن ضمنها تركيا، حيث انخفض حجم الاستثمارات الأجنبية الواردة إلى السوق التركي من 19.8 مليار دولار في العام 2008، لتصل إلى 8.5 مليار دولار مع نهاية العام 2009.

الأمر الذي انعكس بصورة سلبية على الاقتصاد التركي، الذي حقق في العام 2009 معدل نمو سلبياً وصل إلى 4.7%. ومع بداية 2010، ونتيجة الإصلاحات الاقتصادية التي طبقتها الحكومة التركية، وعلى رأسها تبني سياسات مالية ونقدية توسعية (خفض أسعار الفائدة وزيادة الإعفاءات الضريبة) تمكن الاقتصاد التركي من استرداد عافيته سريعاً، ووصل عجز الحساب الجاري مع نهاية 2010 إلى 5.8%.

الفترة الثالثة (2010-2013)

كانت هذه الفترة بمنزلة الموجة الثانية للتدفقات العالمية إلى الأسواق الناشئة، والشرق الأوسط، حيث ساهمت التسهيلات الاستثمارية التي تبنتها الحكومة التركية، وأسعار الفائدة المنخفضة عالمياً، في زيادة حجم التدفقات الرأسمالية إلى السوق التركي، الأمر الذي مكن الحكومة التركية من تغطية نسبة جيدة من عجز الحساب الجاري لديها، والذي وصل إلى 6.7%.

كما ارتفع حجم التدفقات الأجنبية الواردة إلى تركيا من 9 مليارات دولار في العام 2010، ليصل إلى 16.2 مليار مع نهاية العام 2011.

إضافة إلى أن التدفقات الواردة إلى المحافظ الاستثمارية التركية ساهمت في خفض قرابة 40% من عجز الحساب الجاري خلال تلك الفترة، كما بلغ معدل النمو الاقتصادي في نهاية العام 2013 قرابة الـ8.2%.

الفترة الرابعة (2013-2018)

مع بداية العام 2014، كان عجز الحساب الجاري 4.7%، ولكن التغيرات الداخلية والخارجية على الصعيدين السياسي والاقتصادي كان لها دور بارز في تغير المشهد الاقتصاد في تركيا، حيث بدأت الإدارة الأمريكية بتغيير سياستها النقدية من خلال رفعها التدريجي لأسعار الفائدة، كما ساهمت الأزمات الدبلوماسية بين تركيا والولايات المتحدة وغيرها من الدول الأوروبية في خفض حجم التدفقات النقدية الواردة إلى تركيا (بصورة نسبية)، إلا أن الحكومة التركية كان لديها مخزون جيد من الاحتياطات الأجنبية مكنها من تمويل قرابة 15% من عجز الحساب الجاري.

في العام 2015، بدأت الحكومة التركية بتبني سياسات نقدية أكثر توسعاً، مع تشجيع القروض للقطاع الخاص (إنشاء صندوق ضمان الائتمان، والذي قدم ضمانات للقروض بنسبة 11.8%)، الأمر الذي زاد من الفجوة بين الاستثمار والادخار في القطاع الخاص، وأدى إلى تراكم الديون الخارجية، لتصل في العام 2018 إلى قرابة 52% من إجمالي الناتج المحلي، مقارنة بـ41% في العام 2013.

كما أدت حالة الانخفاض وعدم الاستقرار في الليرة التركية إلى تغير المشهد الاقتصادي على الساحة التركية؛ حيث فقدت الليرة التركية قرابة 40% من قيمتها مع نهاية العام 2018، الأمر الذي وضع القطاع الخاص التركي في موقف صعب، خاصة أن معظم هذه الديون مقومة بالدولار.

علاوة على ذلك كان لارتفاع معدلات التضخم، التي وصلت إلى 25% في أكتوبر 2018، أضف إلى ذلك انخفاض ثقة الأتراك والمستثمرين في الليرة التركية خلال الأشهر الماضية، الأمر الذي خلق مشكلة حقيقية تفاقم أثرها بسبب التضخم، ودفعت الاستثمارات الأجنبية قصيرة الأجل إلى الخروج من السوق التركي.

كما ساهمت أسعار الفائدة المنخفضة في السنوات الماضية في تأزيم المشكلة، خاصة أن رفع أسعار الفائدة جاء متأخراً، وجاء في ظل أزمة اقتصادية، إضافة إلى أن استمرار أسعار الفائدة المرتفعة، على الرغم من انخفاض معدلات التضخم من 25% لقرابة 19% في فبراير 2019، يعني انكماشاً أكبر في السوق وفي الاقتصاد.

وفي هذا السياق يُمكن استخلاص أن عجز الحساب الجاري بدأ في الانخفاض نتيجة انخفاض الواردات بعد حالة الانكماش التي أدت إلى تقليل الاستهلاك المحلي.

ما المخرج؟

خطورة العجز في الحساب الجاري للدول تتوقف على ظروف البلد من حيث البيئة السياسية والاقتصادية، فضلاً عن مدة العجز وحجمه.

إذا كان العجز يعكس فائض الواردات على الصادرات فقد يكون ذلك مؤشراً على مشاكل القدرة التنافسية (هذه الحالة يعاني منها الاقتصاد التركي؛ بسبب نقص الموارد، وغياب سياسة التصنيع).

إذا كان العجز يعكس زيادة في الاستثمار على المدخرات فإنه يمكن أن يشير بنفس القدر إلى اقتصاد منتِجٍ ومثمر للغاية (وهذه الحالة موجودة في الاقتصاد التركي، خاصة في ظل السياسة النقدية التوسعية، ومعدلات النمو التي حققها في السنوات الماضية).

هيكيلة الاقتصاد التركي وحجم موارده جعلت من عجز الحساب الجاري حالة مزمنة، ولكنها ليست عائقاً إذا ما كان هناك استقرار سياسي، وتوافق حول السياسات الاقتصادية داخلياً.

السياسات النقدية التوسعية (انخفاض سعر الفائدة لسنوات) فاقم الفجوة بين الاستثمار والادخار، الأمر الذي انعكس سلباً على الحساب الجاري.

تغير سياسات الفيدرالي الأمريكي وتبني سياسات رفع سعر الفائدة أدى إلى رفع سعر الدولار، وانخفاض قيمة العملات المحلية في معظم الدول الناشئة.

فالاقتصاد التركي تأثر سلباً بهذا القرار، حيث أصبح الاستثمار في الأصول المقومة بالدولار الأمريكي أكثر إغراء من الاستثمار في الدول الناشئة، الأمر الذي يدفع المستثمرين إلى تحويل رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة كتركيا والبرازيل وماليزيا وغيرها إلى السوق الأمريكي، الأمر الذي يفاقم عجز الحساب الجاري.

إلى جانب أن انفتاح الحكومة التركية وتشجيع القطاع الخاص صوب الاقتراض كان له تأثير بارز في الحساب الجاري، خصوصاً بعد تدهور سعر صرف الليرة، الأمر الذي زاد من أعباء الديون التركية المقومة بالدولار الأمريكي.

إجمالاً يُمكن القول: إنه "ليس من الإنصاف تناول مؤشر مثل عجز الحساب الجاري (بصورة منفردة)، وإلقاء اللوم على الحكومة في أنها فشلت في إدارة الملف الاقتصادي، دون وضع المتغيرات الداخلية والخارجية، وخصائص الاقتصاد في الحسبان".







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي