
منذ زمن بعيد، ارتبطت العاطفة بالمرأة والعقلانية بالرجل. تكرّس هذا الانطباع في الثقافة الشعبية والأمثال والموروث الاجتماعي حتى صار "التعبير عن المشاعر"، يُنظر إليه كصفة أنثوية، بينما "التحكّم بالمشاعر" يُنظر إليه كرمز للرجولة والنضج، بحسب سيدتي.
لكن هل هذه الفكرة صحيحة علمياً ونفسياً؟ وهل النساء حقاً أكثر وضوحاً في التعبير عن مشاعرهن، أم أن الرجال ببساطة لا يشعرون بالأمان الكافي لإظهار ما بداخلهم؟
التعبير العاطفي لا تحدده الطبيعة البيولوجية
يؤكد علماء النفس أن التعبير العاطفي لا تحدده الطبيعة البيولوجية وحدها، بل تتدخل فيه عوامل اجتماعية وثقافية وتربوية.
منذ الطفولة، يتلقى الطفل والطفلة رسائل مختلفة تماماً حول مشاعرهم:
البنات يٌشجعن على التعبير والبكاء والبوح، ويعتبرن حسّاسيتهن جزءاً من أنوثتهن.
الولد يُطلب منه أن "يكون قوياً"، وأن "لا يبكِي"، لأن البكاء في نظر المجتمع لا يليق بالرجال.
هذه الرسائل تتكرّر بصيغ مختلفة عبر الأسرة، والمدرسة، ووسائل الإعلام، فتتجذّر في اللاوعي وتشكّل طريقة كل منهم في التعامل مع ذاته ومع الآخرين.
ومع مرور الوقت، تصبح طريقة التعبير عن المشاعر جزءاً من الهوية الاجتماعية لكل من الرجل والمرأة.
المرأة بين الانفتاح والتضخيم العاطفي
البنات عموماً أكثر قدرةً على التحدث عن مشاعرهن، سواء مع الصديقات أو أفراد العائلة.
تُظهر الدراسات النفسية أن النساء يمتلكن مفردات عاطفية أوسع، ويمِلن إلى مشاركة تجاربهن الداخلية بشكل صريح.
لكن هذا الانفتاح لا يعني دائماً أنهن أكثر راحة نفسية، إذ تشير بعض الأبحاث إلى أن الإفراط في التعبير قد يقود إلى الإجهاد العاطفي عندما لا يقابله تفهّم أو احتواء من البيئة المحيطة.
كما أن بعض النساء، بحكم الضغوط الاجتماعية أو التجارب المؤلمة، قد يستخدمن التعبير العاطفي كوسيلة للتنفيس لا للفهم، ما يجعل المشاعر تتكرر دون أن تُحل فعلياً.
كيف نبني توازناً صحياً بين الجنسين؟
لكي نصل إلى توازن عاطفي حقيقي، يجب أن نعيد النظر في المفاهيم التي نزرعها في الأجيال الجديدة:
للشباب: البكاء لا يقلل من الرجولة، بل يعبر عن وعي بالمشاعر وقدرة على التعامل معها بصدق.
وللبنات: الحساسية ليست ضعفاً، بل طاقة إنسانية تحتاج إلى توجيه، لا إلى قمع أو تبرير دائم.
كما أن التربية المتوازنة تُعلّم الأطفال – ذكوراً وإناثاً – أن المشاعر ليست عيباً، وأن التعبير عنها هو خطوة أساسية نحو الصحة النفسية والنضج العاطفي.
ماذا يقول أهل الاختصاص؟
المعالجة النفسية ساندرا فاعور لقيس تقول لـ"سيدتي": "لا يعبر الجميع عن ألمه بالطريقة نفسها؛ البعض يتحدث عنه، والبعض الآخر يعيشه في صمت".
لطالما ارتبطت فكرة التعبير عن المشاعر بصورة نمطية في مجتمعاتنا؛ فالمرأة تُصوَّر على أنها كائن عاطفي يعبّر بحرية عمّا يشعر به، بينما يُتوقّع من الرجل أن يكون متماسكاً، صلباً، وأن يخفي ما بداخله خلف عبارة مقتضبة: "أنا بخير".
لكن، هل تعني هذه الصورة أن النساء أكثر قدرة على التعامل مع عواطفهن؟ أم أن الرجال ببساطة تعلّموا إخفاء مشاعرهم تحت ضغط التوقعات الاجتماعية؟
الفروق تبدأ من الطفولة
منذ السنوات الأولى، يتلقى الأطفال رسائل واضحة تحدد شكل العلاقة التي سيقيمونها مع مشاعرهم:
يُسمح للفتيات بالبكاء والتعبير عن الخوف والحزن.
ويُطلب من الشباب أن يكونوا "أقوياء" وألا يُظهروا الضعف.
عبارة مثل "لا تبكِي، أنت رجل" تزرع في نفس الطفل خوفاً من الإفصاح عن الألم. ومع مرور الوقت، يتحول هذا الخوف إلى صمتٍ طويل، يمتد حتى مرحلة البلوغ، حيث يجد الكثير من الرجال صعوبةً في التعبير عن مشاعرهم أو حتى في التعرف إليها.
في العيادة النفسية: مشاهد متكررة
تقول "اللقيس": "خلال عملي، التقيت برجال يحملون في داخلهم عواصف من الغضب والحزن، لكنهم يواجهون العالم بوجه هادئ وكلمات قليلة. كما التقيت بنساء يتحدثن باستمرار عن مشاعرهن، ومع ذلك يشعرن بأن لا أحد يفهمهن حقاً".
وتضيف: "الفارق الحقيقي لا يكمن في النوع، بل في الشعور بالأمان النفسي عند التعبير. البعض نشأ في بيئة تسمح له بالكلام بحرية، بينما تعلّم آخرون أن الصمت هو الطريقة الوحيدة للبقاء مقبولين".
القوة ليست في الصمت
في مجتمعاتنا، يُربط الصمت بالقوة، لكن الدراسات النفسية تشير إلى أن القدرة على التعبير عن المشاعر هي شكل من أشكال النضج العاطفي.
القوة الحقيقية لا تكمن في إخفاء الألم، بل في الشجاعة لتسميته والاعتراف به دون خجل.
نحو جيلٍ أكثر وعياً
ربما آن الأوان لإعادة النظر في السؤال التقليدي:
مَن يعبر أكثر عن مشاعره: الرجل أم المرأة؟
السؤال الأعمق هو:من يشعر بأمان كافٍ ليكون صادقاً مع نفسه ومع الآخرين؟
ولكي نخلق توازناً صحياً بين الجنسين، علينا أن نغيّر الرسائل التي نوجّهها لأطفالنا:
دعونا نُعلّم أبناءنا أن البكاء لا يُنقص من رجولتهم.
ونُذكّر بناتنا أن الحساسية ليست ضعفاً، بل قوّة وذكاء عاطفي.
وتختم "اللقيس": "المشاعر ليست حكراً على نوع دون آخر.
كل إنسان، مهما بدا قوياً أو متماسكاً، يحمل داخله مساحة تحتاج إلى الأمان والاحتواء.
ولعلّ أول خطوة نحو التوازن النفسي تبدأ حين نتوقف عن التظاهر بالقوة، ونمنح أنفسنا إذناً بسيطاً: أن نكون صادقين مع ما نشعر به، بلا خوف ولا خجل".