
جديرةٌ أنتِ بالشهادة
التي تُخلدكِ، وبالحياة
وبالنصر المنشود، يا غزة،
وببكاء اليتامى
وزغردات الصبايا
في مواكب الشهداء
التي لا تتوقف.
بالجدب، وبالماء،
بالفرح، وسائر الأحزان،
بالجراح كلها، وبجوامع الفرح والمسرّات،
بالدم المُراق في كل نواحيكِ،
وهمهمة الصغار الخائفين
في أزقة الخراب والدمار.
جديرةٌ بالرماد، والسوسن، والريحان،
بالشهداء إذ يتسابقون للذود عنكِ،
وبجثث أعدائكِ العُميان، مُهملةً في الأرجاء،
منسيّةً، لا يسأل عنها أحد.
يا سيدة مدن الفداء الضخم،
ونشيد الزحف الكبير
باتجاه الأمتار الأخيرة
من ملحمة الصمود العظيم.
جديرةٌ بالتين والزيتون، وبمحارق
كلاب البغي في ساحاتك العالية،
برائحة المسك، وحُرقة الفحم والبارود.
جديرةٌ بكل هذا، لأنكِ أنتِ غزة،
العصية على الكسر، والتكسير، والانكسار،
شفرة الخلود،
وأول الحكاية، وخاتمة البكاء.
طينكِ من ترابٍ، ودمٍ، وذهب،
وجدائلكِ نخلٌ مزهرةٌ بالبشارات،
ووجهكِ أغنيةُ ماءٍ، وحنينُ فصول.
ولهذا سمّوكِ غزة:
الجمرة والوردة،
قطرة المطر الغاضبة،
وقمحُ المساغب العُمي.
جديرةٌ أنتِ بأنين الناي، ونشيج الوتر،
بقصائد الحب، ورباعيات الرثاء،
لأنه ليس مثلكِ إلا أنتِ،
جغرافيةُ أحزانٍ معتقةٍ، ونواحي قرنفل.
يمر في دروبك الشهداء،
موشّحون بمقاتلهم البيض،
تدوّي في صدورهم
تهاليل، وتسابيح، وأدعية.
لا شيء يشبهكِ في مأتمكِ الواسع،
وحزنكِ العميق.
لا شيء يشبه حروفكِ،
أو صلواتكِ،
أو طلاسم منعتكِ العصية على الانكسار.
أنتِ سيدة الخوف والرجاء،
أول الشهقة، ومنتصف العزاء،
لا مثيل لكِ إلا أنتِ،
يا أغنية الأحزان الطويلة
في ليل القتلة، وصمت النواحي.
من أين يدخلكِ الغزاة؟
ومن دلّهم إلى قلبكِ العاشق؟
كيف سكت حراس الزوايا
عن مقاتلكِ الألف ألف،
وهم يرون ضباع الإرهاب العبري
تنهش لحمكِ، وعِرضكِ،
وتحرق سوالفكِ الغسانية،
ولم تضجّ في قلوبهم نخوةٌ،
أو تُرعد في صدورهم غصّة،
أو صرخةُ سيفٍ غاضبة؟
من دلّ الغريب على قلبكِ؟
ومن توارى خجلاً عن نُصرتكِ؟
ومن عميت عيناه
عن رؤية مقاتلكِ الشاهقة؟
ومن أُصيب بالصمم
عن سماع بكائكِ الموجعِ، الرنّات؟!
نحن لم نخذلكِ،
نحن فقراء الأزقة، ومصاطب الأنقياء،
نحن فرسان المواجع، والعثرات، والخيبات،
نحن أنبياء البشارات الخُضر، ورُسل الحقائق الموجعة،
نحن يتامى موائد اللئام، وعشّاق القصائد الغاضبة.
لم ننكر أصلكِ، وفصلكِ، ودمنا منكِ،
لم نَخْطُ خطوةً واحدةً إلى الوراء،
ولم نعثر، أو نَجْبُن عن نصرتكِ على الأشهاد،
لأنه شرف نلناه من قاني دمكِ المسفوح،
ومقاتلكِ اللا تُعدّ أو تُحصى.
نحن، أو كلّنا، في كل شوارع العالم.
يا غزة،
كل شيء دونكِ سراب.
يا غزة،
يا قصيدتنا التي ننشدها الآن.
يا غزة،
يا وجع العالم المكلّل بالمخاوف والأحزان.
يا غزة،
كل عشقٍ دون هواكِ كاذب،
كل دمعةٍ ليست لكِ نفاقٌ،
كل صرخةٍ ليس فيها اسمكِ سراب.
جفّت الصحف، إلا صحائفكِ
التي لا تزال مخضّلةً بدماء صغاركِ.
ولم يبقَ من البلاد بعدكِ إلا البلاد،
ولم تبقَ من الجغرافيات شاهقةٌ
في الخرائط، إلا خارطتكِ المضيئة
بقاني الدم، وابتسامات الشهداء،
ترفرف في سمواتكِ البيض.
ياااااا غزة،
يا حشرجة الموت الخائفة،
ويا كلّ ما في الحياة من حياة.
قومي من تحت الردم،
قومي من موتكِ الأعمى،
اشرقي شموسًا وأقمارًا
في سموات القراصنة العُمي.
انتفضي، وانفضي عنكِ
ركام الموت والخراب،
فأنتِ غزة العزّة،
وأنتِ أُمّنا التي حاصرتها
ضباع الرهبوت، ولم تجفل أو تنهار.
وأنتِ شرفنا العربي الذي لا يُخدش،
وزيتنا النبوي الذي لا تنطفئ ذُبالاته،
وقنديل دربنا الطويل
إلى شاهق العنفوان، وعناوين البسالات.
وأنتِ ما لم يقدر الرواة على وصفه،
وما لم يستطع الطغاة كسرَكِ، ولن،
وما عجزت عنه رماح الغدر،
وصواعق الفتك والإفتاك.
يا غزة،
يا غزة،
يا غزة!!
*ديربورن – أكتوبر – مارس – 2024
*قاص وروائي وشاعر يمني أمريكي