أنشودة ثورية جريئة لتأكيد سلطة الشعب : ميلانشون يحلم بيوتوبيا جديدة لفرنسا والعالم

الأمة برس
2025-09-15

ميلانشون يحلم بيوتوبيا جديدة لفرنسا والعالم (الشرق الاوسط)لندن - ندى حطيط - جان لوك ميلانشون، الخطيب المفوّه، والمرشح لرئاسة فرنسا لثلاث مرات، والزّعيم الكاريزمي الاستقطابي لليسار الراديكالي، قوة لا يمكن تجاهلها في السياسة الفرنسية اليوم، وربما الشخصيّة الوحيدة التي يمكنها منافسة صعود اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان. وبعكس كثير من السياسيين المعاصرين في فرنسا المتسمين بالضحالة الفكريّة وغياب الرؤية، فإن رئيس حزب «فرنسا التي لا تنحني» (La France Insoumise) مثقف من الدرجة الأولى، وضع إلى الآن نحو عشرين كتاباً يعد بعضها من أكثر كتب اليسار مبيعاً في فرنسا، الأمة الأكثر ولعاً بالكتب في القارة الأوروبيّة، وقد قدّم بعد نصف قرن من الانخراط في العمل السياسيّ رؤية جريئة لتغيير ثوري في نظام بلاده - والعالم - في كتابه الأحدث «الآن، الناس! الثورة في القرن الحادي والعشرين*»، الذي صدرت ترجمته إلى الإنجليزية للتو عن دار «فيرسو» في نيويورك ولندن.

«الآن، الناس!» كأنه أنشودة جديدة لسلطة الشعب، تنتقل بقارئها من التجمعات الأولى للبشر إلى فرنسا القرن الحادي والعشرين: المنقسمة والقلقة والمتراجعة المكانة، ويخلص إلى أنّ تقاطع الزمان - المكان في هذه اللحظة من التاريخ أرض خصبة لثورة سلميّة لا عنف فيها، يسترد من خلالها الشعب سلطة سلبتها منه الطبقة البرجوازيّة، ويعيد تشكيل النظام على نحو جديد، يقبل التنوع ويغتني بالاختلاف، ويكمل ما لم يكتمل في الثورة الفرنسيّة (1789).

ليس الشعب في رؤية ميلانشون مجرد طرح شعبوي للحصول على رضا الجمهور، بقدر ما هو غوص في عمق التجربة السياسية في فرنسا التي لدى قيام جمهوريتها الأولى - 1792 أي بعد ثلاث سنوات على ثورة الباستيل - تبنت دستوراً يضع السيادة والسلطة بيد المواطنين الفرنسيين. ومن ذلك الحين، أصبحت الإشارة إلى «الشعب» بوصفه مصدر السلطات لازمة في كل تعاقب الجمهوريات إلى اليوم.

ميلانشون - في الممارسة والكتاب معاً - يصنّف نفسه بوضوح في هذا التقليد كـ«جمهوريّ» وليس مجرد «يساري»، وكثيراً ما يقارن نفسه بجان جوريس (1859 - 1914) المؤسس الأسطوري للحركة الاشتراكية الفرنسية المعاصرة الذي رفض فكرة «ديكتاتوريّة البروليتاريا» الماركسيّة، وآمن بالإصلاح المتدرّج من خلال المؤسسات الديمقراطية.

وبالطبع فإن خطاب كل النخب السياسيّة المعاصرة في فرنسا يمينها قبل يسارها، وحكومتها قبل معارضتها، يُعلي من شأن سيادة الشعب ويتغنّى بها، لكن ميلانشون يجادل بأن الثورة الفرنسية لم تذهب بعيداً بما فيه الكفاية في تطبيق هذه الفكرة البراقة، ويقترح أن حرية حقيقية للمواطنين لا يمكن العثور عليها إلا في ثورة دائمة، وتحديث متواتر للمسلمات السياسية، وقلبها رأساً على عقب ارتباطاً بالوقائع المادية المتغيرة باستمرار.

يرى ميلانشون أن التفاوتات الاجتماعية ومختلف أنواع التمييز والانقسامات الناجمة عن الكراهية الدينية أو العنصرية تقوض قدرة البشر على بناء التضامن الجمعي، وتنحو الأنظمة الرأسمالية المعاصرة إلى تشجيع النجاح المهني والخلاص الفردي دون كبير اعتناء بمستقبل المساواة أو المجتمع السعيد في وقت وصل فيه قطار التاريخ إلى محطة أحد أبرز معالمها صعود «شعب» بشري واحد، يعيش فيما يشبه قرية عالميّة، يوحده مصير مشترك، واعتمادية متبادلة على نظام إيكولوجي مهدد.

هذه المحطّة في حد ذاتها توفر، حسب ميلانشون، دائماً، نقطة البداية لكتابة فصل جديد من تاريخ البشرية، وعنده في هذه القرية العالميّة، ثمة أساس موضوعيّ لعالمية الحقوق فيها، إذ لدينا - مهما تنوعت أصولنا والمنابت - الاحتياجات ذاتها التي لا مفرّ منها، وينبغي أن يكون لدينا جميعاً الحق في تلبيتها، وهو ما يكرّس الحاجة إلى نظام عالميّ مغاير يربط البشريّة - المترابطة موضوعيّاً - ببعضها البعض، وينهي وعثاء رأسمالية القلّة المتنفذة، لمصلحة اعتماد متساوٍ على النظام البيئي عابر للقوميات والأعراق والثقافات.

يستعين هنا ميلانشون بفكرة مثيرة للاهتمام للوصول إلى ثقافة بشرية مشتركة تتجاوز الأوضاع القائمة: الكريول (creolization)، وهو مفهوم أنثروبولوجي - صاغه الفيلسوف إدوارد جليسان - عن الاختلاط الثقافيّ أخذ اسمه من لغة جديدة نشأت بين الأفارقة المخطوفين عبيداً إلى جزر الهند الغربيّة وأميركا الجنوبيّة. أولئك التعساء ضحايا المنظومة الإمبرياليّة الذين اختطفوا من جميع أنحاء أفريقيا لم يتحدثوا اللغة نفسها كي يمكنهم التفاهم فيما بينهم - أو مع مالكيهم -، لكن التواصل كان ضرورة حتميّة تنتفي من دونها استمراريّة العيش، وهكذا طور أولئك الأفارقة المستعبدون لغة جديدة مشتركة مكنتهم من التواصل مع بعضهم البعض والعودة إلى عالم العلاقات الإنسانية. وللمفارقة، فقد حدث ذلك في المرحلة نفسها التي تم فيها تجريدهم من انتمائهم للبشر، ومعاملتهم كأشياء يمكن امتلاكها، فكان ابتداعهم لـ«الكريول» الطريقة التي أعادوا بها تأكيد إنسانيتهم.


يرى ميلانشون أن حرية حقيقية للمواطنين لا يمكن العثور عليها إلا في ثورة دائمة

تختلف فكرة «الكريول» الذي يطرحه ميلانشون عن مجتمعات الميستيزو التي نشأت في أميركا اللاتينية من اختلاط المستعمرين الأوروبيين بالسكان الأصليين لأنه مفهوم ثقافي اختياري بحت ليس له بالضرورة أي جانب بيولوجي، ويبدو من وجهة نظر سياسية أشبه بتلك الحلقة المفقودة بين الرغبة في العالمية وتأكيد الحق في الاختلاف، وممر نحو شيء جديد حيث لن يكون هناك فرق كاف بين البشر لمنعهم من الاندماج والعمل سوية لإنتاج كل أنواع الأشياء الجديدة المشتركة بينهم، تماماً كما يحدث اليوم من خلال الموسيقى، والمسلسلات التلفزيونيّة، والكلمات، والأجهزة، والطبخ، وطرز الملابس التي تصل إلى العالمية على نحو يسمح باندماج السلوكيات والمعايير، ويؤسس لثقافة تراكمية مستقبلية.

أهي يوتوبيا أخرى؟

لعل كثيراً مما يطرحه هذا السياسيّ الطموح له رصيد من واقع أسست له العولمة وتشظي التكنولوجيات، لكّن طرحه النخبوي الراقي في هذا الكتاب يخاطر بفقدان التواصل مع «الشعب» ذاته الذي يريد استدعاءه لتسلم السلطات وتغيير العالم، فثلثا الفرنسيين - وفق شعبيّة حزبه كمقياس - قد لا يتقاطعون معه في شكل العالم الذي يرسمه، بل إن أكثر من نصف اليسار الفرنسيّ يعدُّ رؤيته للسلطة الشعبية كما خيانة لقيم التنوير العلمانية التي تأسست عليها فرنسا. ومع ذلك فإن ميلانشون في مغامرته «الآن، الناس!» أشبه برائد حكيم تطوّع ليقرع للناس الجرس من مستقبل يزداد قتامة، ويحتاج إلى مقاربة مغايرة إذا كان لنا أن ننجو، كمجموعة بشريّة، معاً.









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي