تستعرض فيها الروابط بين أحداث حياتها الخاصة وعملها الأدبي

مارغريت آتوود: مذكّراتٌ من نوعٍ ما

2025-11-22

مارغريت آتوود، الكاتبة الكندية، شخصية ريادية في الأدب المعاصر (الشرق الأوسط)لطفية الدليمي


أحبُّ مارغريت آتوود. أحبُّ سيرتها الأدبية وأعمالها. هي واحدةٌ ممّن ظلّت رفقتُهم لي - منذ بواكير انشغالي بالكتابة الإبداعية في مطلع ثمانينات القرن الماضي - أمراً طيّباً مكتنزاً بالثراء والمعرفة. دوماً حسبتها واحدةً من أضلاع خمسة أقمتُ عليها هيكلي المعرفي الروائي: دوستويفسكي، فيرجينيا وولف، نيكوس كازانتزاكي، هيرمان هسّه، ومعهم مارغريت آتوود. كنتُ أراها في كلّ العقود التي عرفتها أقرب لشخصية أفلاطونية الخواص في عصرنا هذا، وهذه خصيصة يتشاركها معها العمالقة الأربعة الذين ذكرتهم. هي تستحقُّ أن نصف أدبها - كما يطيبُ لي توصيفه - بِـ«الأدب الآتوودي» (Atwoodian Literature) بكلّ رؤاه المستقبلية الاستشرافية المشوبة بديستوبيا قد تكون غير مستحبّة لدى بعضنا. لكن ما العمل؟ هي ترى ما لا يراه الآخرون. أليس هذا بعضاً من وظيفة الكاتب الحقيقي؟ هي لم تنل جائزة نوبل حتى اليوم؛ لكن لنجرّبْ أن نضع قبالتها أيّاً من حملة نوبل الأدبية في العشرين سنة الماضية، أو ممّن لم ينالوها لكنّهم كُتّابٌ معترفٌ بريادتهم الأدبية وسمعتهم الطاغية. كيف تتخيلون النتيجة؟ هل سيصمد أحدٌ أمام مارغريت آتوود؟ ستطغى آتوود عليه بكلّ المقاييس.

مارغريت آتوود، الكاتبة الكندية، شخصية ريادية في الأدب المعاصر، وهي متعددة الأوجه والإمكانات. على مدى مسيرة مهنية امتدت عقوداً، لم تكتفِ آتوود بكتابة الروايات التي وَسَمَتْ حقبة كاملة؛ بل خاضت غمار الشعر والنقد الأدبي والقصة القصيرة، وحتى التأليف المسرحي والنشاط البيئي والنسوي. إنها قامة أدبية تجاوزت حدود النوع الأدبي المنفرد لتصبح رائية روائية تستشرف المخاطر الأخلاقية والاجتماعية في المستقبل، كما فعلت في روايتها الأيقونية «حكاية الجارية» (The Handmaid›s Tale).

سيكون سؤالاً يمتلك مشروعيته الكاملة لو تساءلنا: متى ستكتب آتوود سيرتها الذاتية أو مذكراتها؟ لِمَ لم تفعلْ حتى اليوم؟ لم تتغافل آتوود عن هذا التساؤل فنشرت مذكراتها يوم 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، وقد سبق للصحافة العالمية أن نوّهت عن هذه المذكرات منذ بداية عام 2025؛ لكن من المفضّل قبل الغوص في مذكراتها الأخيرة أن نشير لعمل آتوود الذي يمكن اعتباره سيرتها الأدبية/الكتابية، وهو كتاب «مفاوضات مع الموتى: تأمّلات كاتبة حول الكتابة» (Negotiating with the Dead: A Writer on Writing). هذا العمل المترجم إلى العربية، الذي نشأ من سلسلة محاضرات ألقتها في جامعة كامبردج، ليس سيرة شخصية بالمعنى المتعارف عليه؛ بل هو تشريح عميق لعملية الكتابة ذاتها ولشخصية الكاتب. في هذا الكتاب، تطرح آتوود أسئلة جوهرية: لماذا يكتب الكاتب؟ وما الذي يجعله كاتباً؟ مستكشفة العلاقة الغامضة بين الكاتب وعمله، وبين العالَم الحي والعالم الموازي للأدب الذي يبقى بعد موت الكاتب، ومن هنا يأتي العنوان «مفاوضات مع الموتى»؛ أي الحوار المستمر بين الكاتب ومن سبقوه ومن سيأتون بعده. يُعدّ هذا الكتاب دليلاً فكرياً لكلّ من أراد فهم خفايا الحِرْفة الأدبية من منظور كاتبة مارست كل فنون الكتابة الأدبية.

كما ذكرتُ أعلاه، نشرت آتوود مذكّراتها التي طال انتظارُها، واختارت لها عنوان «كتاب حَيَوات: مذكرات من نوع ما» (Book of Lives: A Memoir of Sorts). لن يخفى على القارئ أنّها اختارت لمذكراتها هذا العنوان الفرعي الذكي للدلالة على عدم التزامها بالصيغة النمطية للسيرة الذاتية. جاءت هذه المذكرات الضخمة (624 صفحة) لتضيء على حياة شخصية رغبت آتوود دائماً في أن تكون أعمالها هي المثابة الأبرز فيها. أشارت آتوود نفسها إلى حذرها من كتابة المذكرات خشية أن يتوقع القرّاء حكايات عن «الإفراط في شرب الكحول، والحفلات الماجنة، والتجاوزات السلوكية الصارخة، وأن يُفرط الكاتب في معاملة نفسه على أنّه ناتج ثانوي انبثق من كومة سماد سلوكي شائن لا لشيء سوى لإضفاء نمط من الواقعية الصارخة على حياته، والإشارة إلى أنّه لن يحجب شيئاً عن قرّائه من تفاصيل حياته»، مؤكدة في الوقت ذاته أنها «لم تعش هذا النوع من الحياة». أظنُّ أنّ هذه التفصيلة مثّلت هاجساً عظيماً لدى آتوود لأنّ القارئ المواظب على قراءة يعرف أنّ هذا النمط من الإنجاز الأدبي والفكري لن يتأتّى إلا بانضباط وجَلَد وحساسية تكاد تكون مَرَضية تجاه الزمن.

اختارت آتوود لكتابها مقدّمة مع تسعة وثلاثين فصلاً. لم تتقيّد الكاتبة بترتيب كرونولوجي زمني خطّي بل أرادت بقصدية كاملة أن تكون المذكرات ترتيباً كولاجياً لمواقف ورؤى وذكريات حسب أهميتها في حياتها. أسلوب الكتابة هو الأسلوب الآتوودي المعهود في كتبها السابقة: كتابة ساخرة تتخللها رؤى فلسفية هادئة من غير تمهيدات أو استطرادات. من أمثلة هذه الكتابة الآتوودية ما ورد في المقدّمة: «بذلت دماءً وعرقاً لكتابة هذا الكتاب؛ فقد كانت الحياة أكثر اكتظاظاً بالتفاصيل من أن تُحشر فيه، ولو أنني متُّ في الخامسة والعشرين - مثل جون كيتس - لكان الكتاب أقصر -. ضحكتُ كثيراً لهذه الفكرة: هل كنتُ حينها سأكتبُ الكتاب؟». ثمّ تضيف في المقدّمة ذاتها: «المذكرات هي ما يمكنك تذكّرُهُ، وأنت تتذكر غالباً الأشياء الغبية، والكوارث، وأفعال الانتقام، وأوقات الرعب السياسي؛ لذلك كتبتُ عن تلك الأشياء لكنني لم أكتفِ بها بل أضفت أيضاً لحظات الفرح والأحداث المفاجئة، وبالطبع الكثير من الكتب».

بعد المقدّمة المثيرة تتناول آتوود طفولتها غير التقليدية في براري شمال كيبك الكندية، حيث عمل والدها كعالم حشرات، وعاشت العائلة في عزلة شبه دائمة دون كهرباء أو ماء جارٍ. هذا الانغماس في الطبيعة والبراري كان بمثابة المعلم الأعظم لآتوود، وشكّل مصدر إلهام لاهتماماتها البيئية والأدب التأمّلي الذي اشتهرت به. بعد مرحلة الطفولة تتناول آتوود في فصول عدّة سنوات التكوين الأكاديمي: انتقالها إلى الحياة المدنية، وتجربتها في الجامعة بمدينة تورنتو ثم في هارفارد، وكيف غذت بيئتها الأكاديمية والاجتماعية الأولى عملها الروائي وبخاصة في روايات مثل «عين القطة» (Cat›s Eye) التي استلهمتها من تجربة التنمر في طفولتها.

عقب التكوين الأكاديمي تتناول آتوود العلاقة بين الحياة والفن؛ إذْ تستعرض بذكاء وحسّ دعابة بالغَيْن الروابط بين أحداث حياتها الخاصة وعملها الأدبي، رافضة التفسير التبسيطي الذي يرى أعمالها سيرة ذاتية مباشرة. لا تنسى آتوود في هذا السياق أن تلقي الضوء على كيفية نشأة أفكار أعمال كبرى لها مثل «حكاية الجارية»، مستمدة أفكارها من فترات تاريخية محدّدة وقواعد اجتماعية شاخصة. تفرِدُ آتوود جزءاً مهمّاً من مذكراتها للحديث عن حياتها وعلاقتها مع غريم غيبسون: زوجها وشريكها الأدبي الراحل، كاشفة عن شراكة إبداعية وعاطفية عميقة. ينتهي حديثها عن زوجها الراحل بلمسة حزينة - لكنْ قوية - تتناول سنوات تدهوره الصحي ووفاته، مؤكّدة على ضرورة الاستمرار في العمل والحياة.


عندما يقرأ القارئ الشغوف هذه المذكّرات لا بد أن يقف عند
شواخص ماثلة تكشفُ عن ثراء فكري وتجربة حياتية مكتنزة

قلتُ إنّ آتوود كاتبةٌ منغمسة عضوياً في عملها الإبداعي؛ لذا ليس غريباً أن تختصّ كثرةً من فصول كتابها لأعمالها حدّ أنّ عناوين هذه الفصول هي عناوين أعمالها المنشورة ذاتها. عندما يقرأ القارئ الشغوف هذه المذكّرات فليس بمستطاعه سوى الوقوف عند شواخص ماثلة من عبارات آتوود التي تكشفُ عن ثراء فكري وتجربة حياتية مكتنزة. لا بأس من بعض الأمثلة: عن ازدواجية شخصية الكاتب وجوهر الكتابة تكتب آتوود: «كلُّ كاتب هو على الأقل كائنان: الذي يعيش، والذي يكتب... وهما ليسا الشخص نفسه». كذلك عن الذاكرة والحقيقة تكتب آتوود: «هل ما أتذكّرُهُ هو نفس الأشياء التي حدثت بالفعل؟ الطريقة الوحيدة التي يمكنك بها كتابة الحقيقة هي أن تفترض أنّ ما تكتبه لن يُقرأ أبداً... لا من قبل أي شخص آخر، ولا حتى من قبلك أنت في وقت لاحق؛ وإلا فإنك تشرعُ في تبرير نفسك» من جانب آخر بعيد عن الذاتية المكرّسة، وفي سياق بيان أهمية العصر الحالي للمرأة الكاتبة مثلها تكتب آتوود: «سألني الناس على مر السنين: إذا كان بإمكانك اختيارُ قرن آخر لتعيشي فيه؛ فأيُّ قرن ستختارين؟ أجبْت: هذا سؤال عام جداً ويتناولُ تفاصيل مفروضة علينا. هو شبيه بأسئلة من نوع: ما هو جنسك؟ ما هو عمرك؟ ما هو بلدك؟ ما هي طبقتك الاجتماعية؟ هل كنتِ تفضلين أن تكوني أميرة من النبلاء أم حفَّارة خنادق؟ لم يكن لدي أدنى شك لولا عصر الطباعة لكنت أغسل الأرضيات». لا يخلو كتاب مذكّرات آتوود من مداعبة فلسفية عُرِفت بها الكاتبة؛ فحَوْل تحدّيات الجسد والوجود تكتب قائلة: «بعد أن يفرض الجسد نفسه علينا كنرجسيٍّ أنانيٍّ فإنّ حيلته الأخيرة هي -ببساطة- أن يغيب عن المشهد!!».

كتابُ مذكّرات آتوود ليس تجميعة عشوائية للذكريات؛ بل هو احتفالٌ بمسيرة حافلة بالإنجاز، وإطلالةٌ على العقل المبدع لواحدة من أهم الروائيات في عصرنا- روائية استطاعت أن تحوّل تجاربها الشخصية، مهما كانت عادية أو استثنائية، إلى نبع إلهام أدبي عالمي.

 











شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي