لبيتر تورتشين : هل يمكننا التنبّؤ بانهيار المجتمعات؟

2025-09-11

تيم آدامز - ترجمة: لطفية الدليمي

 

ثمّة علمٌ حديث بات يتشكّلُ على نحوٍ حثيثٍ في السنوات الأخيرة، يُدعى علم التنبؤ بانهيار المجتمعات Collapsology. يهدف هذا العلم، ومن خلال دراسة التاريخ وتوظيفه لتقنيات الرياضيات المعقّدة، إلى الكشف عن أنّ هناك اتجاهاتٍ دوريةً Cyclic في سرديات الأمل والفشل البشري. أو لنضع العبارة في صياغة أكثر دقّة: إنّ هناك اتجاهاتٍ دوريةً في نشوء المجتمعات وانهيارها.

منذُ أن وُجِدتِ المجتمعاتُ البشريةُ المعقّدة، كان هناك من يتنبّأ بانهيارها الوشيك. في السنوات الأخيرة، أصبح علم التنبؤ بنهاية العالم أكثر علميةً بكثير، بعد قدرته المتعاظمة على توظيف البيانات الضخمة Big Data.

بيتر تورتشين Peter Turchin هو أحد أبرز علماء التنبّؤ بانهيار المجتمعات. تدرّب تورتشين في نطاق علم الأحياء، مستخدمًا النماذج الإحصائية لفحص شبكات العلاقات بين الحيوانات المفترسة والفرائس. ومع ذلك، فقد حصل في تسعينيات القرن العشرين الماضي، وبعد أن شهد بنفسه التفكّك المفاجئ للاتحاد السوفياتي الذي كان والده منفيًا منه، أن وجّه تورتشين عقله التحليلي نحو مجموعة مختلفة من الأسئلة. انطلق تورتشين لاكتشاف الأنماط الإحصائية في الطوفان الهائل من البيانات التاريخية التي قد تتنبأ بعدم الاستقرار المستقبلي في المجتمعات. جاء إلى مهنته في وقتٍ مناسب. يبدو أنّ تورتشين قد دلف إلى هذا الحقل المعرفي الجديد في الوقت المناسب؛ إذ بات بعد سنواتٍ قليلةٍ المثابة الشاخصة فيه وأحد أكابر علمائه ذوي السُمعة العالمية.

يُطلق تورتشين على مقاربته التاريخية القائمة على البيانات الكبيرة اسم "الديناميكية الحيوية Cliodynamics". في سلسلة كتبه: "الحرب والسلام والحرب" War and Peace and War (2006) و"عصور الخلاف" The Ages of Discord (2016) - استخدم تورتشين مجموعات بياناته في محاولة لتحديد الأساس الذي تستند إليه جميع الحضارات الإنسانية في عصر المدن والدول في بناء آليات تدميرها الخاصة. وهو لا يسعى فقط إلى إظهار أنّ الرياضيات المعقّدة قد تُطلق العنان لتلك القوى المُعرقلة؛ بل يسعى أيضًا إلى توضيح كيف يُمكن أن تُساعد في تجنّبها وكبح مفاعيلها لو شئنا.

ردًّا على ذلك، وفي مسعى معاكس لمقاربة تورتشين، مال العديد من المؤرّخين المُتشبثين بفكرة أن تخصّصهم فنٌّ لا علم، إلى الاستخفاف بفكرة أنّ عمل حياتهم قد يُفهَمُ بشكل أفضل من خلال سلسلة من المعادلات المعقّدة. يجادلُ هؤلاء ببساطة بأنّ هناك عددًا كبيرًا للغاية من المتغيّرات التي لا تُفسّر الأزمات والثورات والحروب، وحتى التحوّلات السياسية اليومية في المجتمع. يُعدُّ كتاب تورتشين المعنون "عصر النهاية: النُخب، والنُخب المضادة، ومسار التفكّك السياسي End Times: Elites, Counter Elites and the Path of Political Disintegration"، المنشور عام 2023 عن دار نشر بنغوين، أحدث محاولة لتورتشين في تعضيد مقاربته التاريخية (الكليوديناميكية)، وهي محاولة مُقنعة إلى حدٍّ ما في المسعى لتحدّي الإجماع المضاد له من جانب المؤرّخين الكلاسيكيين.

  ليس من المُستغرب أن تحظى أساليب تورتشين ببعض المؤيّدين المُتحمّسين بين طبقة الأثرياء الجدد في وادي السيليكون

يكمن جزء من سلطة مقاربة تورتشين التاريخية في النمو الهائل لمجموعات بياناته. في عام 2011، أسّس تورتشين، الأستاذ بجامعة كونيتيكت ورئيس مركز علوم التعقيد Complexity Sciences في فيينا، مشروعًا يُسمى "سيشات Seshat" (المُسمّى تيمنًا بإلهة الأرشيف المصرية). يضمُّ مشروع "سيشات" عشراتِ الخبراء المتعاونين - من علماء أنثروبولوجيا وعلماء آثار ومؤرّخين - في بناء أكبر مجموعة بيانات في العالم حول ازدهار المجتمعات وزوالها، من صعيد مصر إلى مانهاتن السفلى في نيويورك. يؤكّد تورتشين دومًا أنّ جميع النتائج هي حتمًا عملٌ قيد التطوير، ويستنتج من هذه النتائج بعض الاتجاهات الدورية في هذه الرواية المُجمّعة عن الأمل البشري والفشل البشري معًا.

 النمط الأكثر شيوعًا الذي يطرحه تورتشين هو "تناوب مراحل التكامل والتفكك المجتمعي التي تستمر لنحو قرنٍ من الزمان"، وتكتسب تنبؤاته أهميةً خاصةً لأنّ المجتمعات الغربية، وبخاصة أميركا كما يشير هو، قريبةٌ جدًا من نهاية مرحلة التفكك الأخيرة، ممّا يزيد من احتمالية نشوب حرب أهلية أو انهيار هيكلي محتمل. يحاول نموذج تورتشين ترجيح عواملَ معينة للتنبؤ بهذا الانهيار الاجتماعي، من أهمها: التفاوت المتسارع في الثروة والأجور، والإفراطُ في إنتاج النخب الواعدة - أبناء العائلات الثرية، والخريجين ذوي الشهادات العليا، والمعلقين الاجتماعيين المحبطين -، والنمو غير المنضبط في الدَّيْن العام. يشير تورتشين إلى حقيقة أنّ هذه العوامل في الولايات المتحدة - وبالتبعية في المملكة المتحدة - بدأت "تتخذ منعطفًا ينذر بالسوء في سبعينيات القرن الماضي... وتشير البيانات إلى السنوات التي تلت عام 2020، حيث كان من المتوقع أن يؤدي تضافر هذه الاتجاهات إلى تفاقم عدم الاستقرار السياسي".

على الرغم من أنّ منهجية التوصّل إلى مثل هذه الاستنتاجات قد تكون معقّدة وتنبع من دراسة أزمة أواخر العصور الوسطى في فرنسا، وتمرد تايبنغ في الصين، والحرب الأهلية الأميركية، وجميع المراحل التي تقع بينهما؛ إلا أنّ القوى المزعزعة للاستقرار التي يصفها تورتشين غالبًا ما تبدو واضحةً للعيان، وقد تستشعرُ معظمَها من قراءة صحيفة هذا الصباح. يجادل تورتشين بأنّ القوى الدافعة للاتجاهات السلبية في جميع المجتمعات ذاتُ محرّكين على نطاقٍ واسع: المحرّك الأوّل هو وجود "مضخة ثروة Wealth Pump" فاسدة، والتي، بعد سنواتٍ من سياسات توزيع الثروة، تأخذ من الفقراء وتُعطي للأغنياء!!! في عام 1983، كان هناك 66 ألف أسرة تبلغ قيمة ما تتملّكه كلٌّ منها 10 ملايين دولار على الأقل في الولايات المتحدة. وبحلول عام 2019، ارتفع هذا العدد، من حيث القيمة المعدلة للتضخّم، إلى 693 ألف أسرة. لكن بينما زادت أعداد هؤلاء الأثرياء الفاحشين، انخفض دخل وثروة المواطن الأميركي العادي. تزامن هذا الاتجاه مع المحرّك الرئيسي الثاني المزعزع للاستقرار، وهو ما يُعرّفه تورتشين بأنه "الإفراط في إنتاج النخب Overproduction of Elites"، حيث يتنافس عددٌ متزايد من الناس على هيكلٍ محدود ومتزايد الفساد من الامتيازات والسلطة.

    "النمط الأكثر شيوعًا الذي يطرحه تورتشين هو "تناوب مراحل التكامل والتفكك المجتمعي التي تستمر لنحو قرنٍ من الزمان"، وتكتسب تنبؤاته أهميةً خاصةً لأنّ المجتمعات الغربية، وبخاصة أميركا كما يشير هو، قريبةٌ جدًا من نهاية مرحلة التفكك الأخيرة"

يعرض تورتشين أربعةَ فصائل يتفاقم بينها هذا التنافس على المكانة والمال بشكل دائم: العسكرية، والمالية، والبيروقراطية، والأيديولوجية. ومع تدهور المجتمعات، تفقد المعادلة المتوازنة لهذه الفصائل توازنها بشكل كبير؛ إذ تسعى قوى رأس المال إلى تدمير أصوات الأيديولوجية، وتُسلّح "نخبة" نفسها ضد أخرى في سلسلة من الحروب الحقيقية أو الحروب الثقافية التي تعمل على تشريع آليات الانهيار. يجادل تورتشين بأنّ قوة تطبيق هذه المقاييس بطريقة "موضوعية" عبر العديد من المواقف التاريخية، تكمن في ظهور مبادئ عامة، ويضيف قائلًا: "إنّ هدف الديناميات التاريخية (الكليوداينامكس) هو دمج جميع قوى التاريخ المهمّة، سواء كانت ديموغرافية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو أيديولوجية". إذا بدا هذا الطموح مُذكّرًا بعض الشيء بالسيد كازوبون و"مفتاح كل الأساطير"(1) المُحبط، فقد تجد - أو لا تجد - عزاءً في أنّ تورتشين قد أسند غطرسته وشكوكه إلى اليد الخفية لتحليل البيانات.

ليس من المُستغرب أن تحظى أساليب تورتشين ببعض المؤيّدين المُتحمّسين بين طبقة الأثرياء الجدد في وادي السيليكون - مليارديرات لا يهتمون فقط بالرياضيات المُعقّدة، بل أيضًا بكيفية الحفاظ على جميع الأصفار المُرتبطة بثرواتهم الفاحشة. قال تورتشين في شأنهم: "فهم هؤلاء الأمر؛ لكن لا يعنيهم من كلّ الأمر سوى سؤال واحد لا غيره: كيف يُمكنهم جني المال من هذا الوضع؟"

إذا كان تورتشين يتاجر بنهاية العالم، فإنّ أمله هو تحديد الوسائل التي تمكّنت بها بعض المجتمعات التي واجهت التهديدات الوجودية من التخفيف منها أو تجنّبها. يدرس تورتشين الطرق التي نجت بها بريطانيا من الثورة بقانون الإصلاح لعام 1832، وكيف أدّت المؤشرات المتطرفة بعد الكساد الكبير إلى ظهور "فصيلٍ مؤيّدٍ للمجتمع" داخل النخبة الحاكمة في أميركا، والذي تخلّى عن نسبة كبيرة من ثروته في الضرائب لمنع الكارثة. (عندما تم إدخالُ معدل الضريبة الفيدرالية في عام 1913، كان أعلى معدل 7%؛ في حين لمدة عقدين بعد الحرب العالمية الثانية، ظلّت هذه الضريبة فوق 90%). يكتب تورتشين: "تحتاج المجتمعات البشرية المعقّدة إلى نخب - حكّام وإداريين وقادة فكر - للعمل بشكلٍ جيد. نحن لا نريد التخلص منهم؛ الحيلة هي إجبارهم على العمل لصالح الجميع". ومع ذلك، للأسف، لا تزال هذه الخوارزمية قيد الإنشاء.


إحالات:

1. مفتاح كل الأساطير The Key to All Mythologies: هو اسم العمل اللاهوتي الذي كرّس له القس إدوارد كاساوبون Edward Casaubon، عندما بلغ من العمر 45 عامًا، عقودًا من حياته. يُبرز عنوان العمل الرائع نطاقه الطموح للغاية. وظّفت جورج إليوت مقطعًا من هذا العمل في روايتها الملحمية Middlemarch (المترجمة)

(*) تيم آدامز Tim adams: صحافي مخضرم وأحد محرري صحيفة "الأوبزرفر".

(**) الموضوع المترجم أعلاه منشور في صحيفة "غارديان" البريطانية بتاريخ 28 أيار/ مايو 2023. العنوان الأصلي للموضوع المنشور باللغة الإنكليزية هو:

End Times by Peter Turchin review – can we predict the collapse of societies؟









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي