نتوءات

2025-09-08

اللوحة المرفقة للفنان التشكيلي المغربي توفيق شيشانيبلال الخوخي*

 

كم نحاول تجنّب الكثير من السبل، غير أنها تتشبث بنا بمقدار رغبتنا في الفرار، كأن الرغبة تنعكس في مرآة القدر، ثم، ها أنا أمشي على الطريق، الطريق المنبوذة من ذاكرتي الطفولية. أسائل الذاكرة البئيسة عن الأسباب فتتمنع، تقول لي: "إن أشد البغض ما لا نتذكر أسبابه"، لكني أحسها تراوغ؛ أعلم أنها تحرس في العمق غرفة مظلمة تحوي كل أسرار البغض المعلَن.
سأبدأ العمل غدًا، وسأضطر إلى عبور الطريق مرارًا، ولهذا، أحاول أن أبرم صلحًا نفسيًّا معها، وكمبادرة – ربما- أتذكر أن قبل الإسفلت المعَبَّد؛ كان يبرز نتوء صخري صغير، كان هو العثرة الوحيدة وسط مستوى ترابي طويل، العثرة التي أمسكت قدمي كأنها يد الغول في حكايات جدتي؛ انبثقت من تحت الأرض لتقلب لوح الخبز من فوق رأسي وتسبب في جرح ركبتي، لم أحس بألم الجرح إلا ليلًا، لأنني في تلك اللحظة لم أنشغل سوى بالعجين المعفر بالتراب؛ يا ويلي من العقاب المنتظر: ضرب بغصن شجرة زيتون، أو قرصات لا تفارق الفخذ إلا مخلفة بقعًا زرقاء، أو في أفضل الأحوال، ضربة بنعل أمي البلاستيكي.
الخوف الفجائي فتح قناة الدموع، شُلّت جوارحي من هول الفاجعة، حملقتُ في اللوح المقلوب وفي العجين الذي كان قبل ثانية مشروع خبز كامل تعده أمي كي يكفينا يومين أو ثلاثة. أمي تظل تشتكي من العوز، وتلح على أبي أن يقترض لأجل كيس دقيق، وعندما ينصاع لإلحاحها، وبعد أن تكدّ في عجنه؛ أُفسد الأمر في طريقي نحو "الفَرّان". نهضتُ فقصدت النتوء الذي ظننتُه محض حجر صغير بادئ الأمر، إلى أن هممت برفعه لينكشف عجزي كعملاق أسطوري أمام زحزحته.
أحاول أن أحدد إحداثياته بالضبط، لكن الدنيا غير الدنيا؛ تزاحمت المنازل والعمارات والدكاكين ملتهمة أشجار الصنوبر، ابتلع الإسفلتُ الترابَ والنتوءَ، قد يكون اقتُلع من جذوره الصخرية الضاربة في الأرض، لأن الكماشات الآلية ليست كأصابع طفل أفلتت لوح الخبز عند أول عثرة. أحيطُ الطريق بنظرات فاحصة؛ يشير الواقع إلى أنها نفس الطريق، إلا أنها غيرت رداءها البالي. ثلاثة أطفال على الرصيف المقابل يحدقون فيّ، لسان حالهم يسأل: "من أنت أيها الغريب عن هذه الأرض؟". أنا ابن هذه الأرض يا أطفال، جُبْتُ دروبها قبل أن تتشابك وتضيق، تسلقتُ أشجارها قبل أن تُجتثَّ كما لو شبّ فيها حريق. أنا ابن هذه الأرض يا أطفال، لا دليل لي على ذلك سوى ذاكرتي، وكل ما في ذاكرتي لم يبق على هذه الأرض؛ لأن فيها نتوءًا صدّ صندلي فهوى العجين على التراب، ولما أيقنتُ أن العقاب واقع لا محالة؛ امتدت يد ياسين، وضعها على كتفي، ثم أخذ يسوّي دوائر العجين فوق اللوح، فقلّدتُه شاكرًا في صمت؛ أَسُلُّ حبيبات الحصى الظاهرة ثم أطبطب بكفي وأعدِّل الحواف. صار اللوح أشبه بما كان عليه قبل السقوط؛ فقلتُ بصوت مسموع تخالجه تنهيدة: "أفلتُّ من العقاب"، فضحك ياسين وأخبرني أن لا أفرح "إلا بعد تسليم اللوح للفران". أين كان موقع "الفران"؟ لم تعد مدخنته بادية وسط هذا الاشرئباب الإسمنتي، هل تم ابتلاعه هو الآخر؟
أبحث في الوجوه عن ملامح أعرفها، أبحث عن ياسين، عن حنان، عن شلة تسلق الأشجار لما كنا نهجم عليها كالجراد ثم نذوب بينها أثناء الغميضة. أحاول اختراق هؤلاء العابرين جواري، لعل فيهم شيئًا مني، شيئًا من الجزء المتمنع في ذاكرتي، المبغضِ لهذه الطريق. أجدني أتذكر كل ما يفجر آهات الحنين الموءود 20 عامًا في منزل جدتي، ويتواطؤ دمعي فأداريه.
"أنا أعشق هذه الأرض"، أتمتمها، لأن الصور المتولدة في رأسي لا تقول سوى ذلك؛ فلماذا هذا البغض المتكتل في جوفي مثل كرة لحم متعفنة؟
أصل إلى مدخل الفرع حيث تم تعييني مسؤولًا عن الإرساليات، أتوجه نحو مكتب المدير كي أسلم ملفي قبل الشروع الرسمي في العمل، غير أنه ليس حاضرًا، يقول حارس الأمن إنه سيتأخر نصف ساعة؛ أجلس على كرسي الانتظار، وأمرر عيني على الجدران التي تظن نفسها أقدم مني في هذا المكان.
العامل الوحيد خلف المستطيل الزجاجي يخوض شجارًا صامتًا مع أوراقه عساه يخلصها ضمن الإطار الزمني القانوني، وإلا سُجن هنا دقائق إضافية حتى يُتِمّه. أعلم أني سأنخرط ضمن هذا السباق المسعور بعد أقل من يوم؛ فأتجاهل التفكير في الأمر. يتقدم أحد الزبائن فيمد إلى العامل طردًا دائريًّا مثل خبزة، يتسلمه ثم ينطق كلمات تتبدد ذبذباتها قبل الوصول إلى طبلتي، فيتهيأ لي أنه سيقضمه، سيقضم الخبزة؛ أضحك ضحكة خفيفة من هذا المشهد، فإذا به ينتقل نحو بعد زمني آخر، حيث يتجسد أبي رافعًا لقمةً نحو فمه، بينما أنا وأمي معه حول صحن العدس، أراقب الحدبة المتحركة في حنكه إلى أن يتوقف فجأة عن المضغ، يزمجر في أمي: "ألم تنقي العدس؟"، تظل صامتة؛ فيتناول منديلًا يغطي به فمه ويخرج اللقمة، ثم يرفع كسرة خبز حافية ويقضمها، وسرعان ما يتضاعف تجهمه فيبصق في صحن الطعام وينهض صارخًا: "يبدو أنكِ أقسمتِ أن تطعمينا ترابًا هذا اليوم، تْفوو". أراه يسحب علبة سجائره من جيب القميص ثم يغادر المنزل؛ فأبتلع غصة الهلع من أن تُكشف جريمتي. بعدها، لم أره أبدًا، لأن مع مرور الأيام قررت أمي الانتقال إلى منزل أمها، أخبرتني أن لا طاقة لديها على تحمل مصاريف الكراء، وأن "ما قيمة منزل بدون رجل؟" فأسررت في نفسي أن منزل جدتي كذلك بدون رجل.
أفطنُ إلى حارس الأمن يشير إليّ بوصول المدير، فأعتدل في جلستي وأنظر إلى الأوراق بين يدي، أفكر في أن أعود إلى الفرع المركزي وأستعطفهم من أجل نقلي إلى أي مكان آخر، أو أتحجج بمرض أمي وحاجتها إلى الرعاية، وإن تطلب الأمر أبحث لي عن وظيفة مغايرة. عندما يدخل المدير أتبعه إلى مكتبه، يستقبلني بوجه باش ثم يستلم أوراقي ويتفحصها:
حسنًا، مرحبًا بك بيننا. أشكره على ترحيبه وأهمّ خارجًا؛ فيستوقفني:
عليك أن تقوم بجولة سريعة في هذه المنطقة، سوف يعجبك المكان.


* قاص مغربي.









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي