
إبراهيم عبد المجيد*
هذا عنوان ديوان شعر صغير للشاعر العراقي عِذاب الركابي المقيم في الإسكندرية منذ سنوات. لعِذاب الركابي دواوين عديدة ودراسات نقدية أيضا. من دواوينه «من طموحات عنترة العبسي» و» قولي كيف نما شجر الأحزان» و»هذه المرأة لي» و»ما يقوله الربيع»، تجربة في شعر الهايكو، ومثلها من شعر الهايكو «العصافير ليست من سلالة الريح»، وهو صاحب أول تجربة في شعر الهايكو. بهذا الديوان يكون له خمسة عشر ديوانا. له دراسات عديدة مثل» صلوات العاشق السومري- دراسة في شعر عبد الوهاب البياتي» و»عبد الرحمن مجيد الربيعي وأسئلة الزمن الصعب» و»الفنان التشكيلي محمد إستيتة.. لغة اللون والحياة»، وغيرها مما يتجاوز عشرين عملا نقديا. عرفت كتاباته تقريبا كل المجلات العربية، وكتبت عنه دراسات عديدة. الديوان الجديد صادر عن دار الخليج للنشر والتوزيع هذا العام 2025.
الديوان صغير الحجم لا تزيد صفحاته عن الخمسين صفحة، ليس لقلة القصائد لكن للبناء الفني للديوان، الذي جعل القصائد القليلة، تحيط بالعالم الذي صارت فيه الفراشات لا تصنع الفوضى، كما هو سائد عن مصطلح «من وجهة نظر الفراشات»، لكن تطل من أعلى وتكتب قصائدها. يقول عنه الشاعر حميد سعيد في كلمة الغلاف: «أن يختار الشاعر عذاب الركابي عناوين نصوص مجموعته الشعرية من وجهة نظر الفراشات، وبالتالي موضوعاتها، فهو يدخل مدخلا جديدا من مداخل القصيدة الحديثة مشرعة الأبواب، ويحقق إضافة على صعيدي الموضوع وجماليات القصيدة… إن محاولة الخروج من جغرافية المألوف والمكرر، كما فعل الشاعر الركابي، لا يجدد النص الشعري فحسب، بل يجدد نمط القراءة». والحقيقة أن أيْ قارئ يشعر وهو يقرأ هذه القصائد إنه يسمعها، كما حدث معي وأنا أقرأ.
يقول عِذاب الركابي في مقدمة الديوان، هذا نوع من الكتابة في درجة الصفر كما يطلق عليها السيميائي الكبير رولان بارت، ومفهومها الدقيق الكتابة» اللاتحديد»
و»اللا قواعد». بمعنى أن كل نص يخلق قواعده الخاصة بنفسه. وبعيدا عن أي تفسيرات مسبقة، فحين تتطلع إلى عناوين القصائد تتساءل لماذا جاءت هكذا. العناوين تتالي كالآتي «الأطفال ـ الرجال ـ النساء ـ الشعراء ـ الروائيون ـ التشكيليون ـ العشاق ـ الغرباء ـ الفقراء ـ اللصوص – الأيديولوجيون – الطيبون ـ الأصدقاء ـ الأعداء – «المتأسلمون ـ الطغاة ـ الوطنيون ـ الانتهازيون ـ الأهل – الوطن ـ الحاكمون».
وهكذا أنت مع كل مظاهر الحياة، يحقق بها الرؤية الفضائية للفراشات لهذا العالم. بالنظر في العناوين وتتابعها تدرك أن بعضها يأتي مثل تيار اللاشعور، فبعد الأطفال يأتي الرجال ثم بعد الرجال تأتي النساء. وحين يبتعد عن ذلك إلى الشعراء يأتي بعدهم الروائيون ثم التشكيليون. ومن الفن يأتي العشاق، ومع العشق يأتي الاغتراب أو الغرباء، ثم يأخذه الغرباء إلى الفقراء. وبعد الفقر يتداعى اللصوص، ومن يفسر العالم من الأيديولوجيين، ومن يقف في الظل مثل الطيبين والأصدقاء، لكن يتداعى الأعداء ويتفرعون دون قصد إلى متأسلمين وطغاة، يقابلهم الوطنيون الذين بدورهم يقابلهم الانتهازيون. ثم يلوذ بالأهل والوطن. ومع الوطن يأتي الحكام أو الحاكمون. الديوان هكذا رواية حداثية تتداعى فصولها، لكننا نعود إلى الشعر الذي يتجاوز فيه البناء ما هو سائد بالصور الفائقة التعبير، فتتألق الروح والعقل بالبلاغة الشعرية في الصور التي تتدفق فتملأ حولك الفضاء. ففي قصيدة الأطفال التي يفتتح بها الديوان يقول:
« نسوا أن يكبروا،
لا! تعمدوا النسيان».
وتتسع الصور إلى:
«الطفولة الحياة في اللازمان.
يخزنون أمانيهم في قرص الشمس.
ويلعبون بمشاعر الوقت في اللامكان»
يقابلهم في القصيدة التالية «الرجال»:
«مشغولون بتأكيد ذواتهم المبعثرة
كذرات تراب أقدامهم
في سَفر مضنٍ دائم.
وتذاكر سفرهم وزادهم الوهم»
وتستمر في الرؤية:
«يخترعون الأحلام
مستيقظون وهم نيام»
«انتصاراتهم بطعم الهزيمة.
لا تاريخ ولا غنائم.
فقط خرائط شاحبة منسية»
هكذا تستحوذ على الشاعر الرؤية الوجودية للبشر، التي تتأني مع «النساء»، وتأتي لغة الحس والطعم أيضا في فمك. يقول:
«صوت الأنوثة،
الذي تحدده العذوبة الدائمة.
والنظرة الإلهية
ولعبة الإغواء!
هدير الوجود.
قبة الحب والشهوة الطاغية
لامتلاك كل شيء..
ما فوق الأرض،
وما في السماء من نفوس وأقمار»
وحين يأتي الشعراء يقول:
« جند النبوءة.
مهندسو الحلم الإنساني المتلألئ
مشعوذون وقديسون في آن»
أما الروائيون فهم صناع الحكاية.
«وقتهم في تمرد دائم على وقته،
وهم يحكون حكاية الإنسان..
والحياة ولعبة الأقدار
من وجهة نظر
الأنهار والسيول والأمطار»
تقف عند كل الصور، وإذا كنت منهم شاعرا أو روائيا، تشعر كيف يرتفع بك إلى السماء في معزوفة كم آلمتك، وملأتك أيضا بالسرور الإلهي.
بعد التشكيليين الذين هم:
«أول من أخبرنا
بضحكة.. وغناء الطبيعة،
بميلاد البحر،
وتناسل الأطيار»
تتأمل تاريخ البشرية الذي يتركه لك، وكيف كان الرسم والنحت هو سر خلود كل العصور.
يأتي العشاق الذين هم:
«هبة الله
الشكل الأسمى للوجود،
ونبيذ الحياة»
ليأتي الغرباء الذين هم:
كلامهم سكوت
ضحكهم بكاء
وحبهم موت صغير!!
وتستمر الصور والمعاني الفارقة، التي تشملك بالرغبة الفائقة في القراءة، فأنت تسمع وترى ما تقرأه، ولن أستطيع المشي مع كثير من الصور فالديوان لمن يقرأه، لكني أحاول الوقوف عند المعاني التي يذكرنا بها، بعد أن أخذتنا عنها عبثية الحياة من حولنا. فالفقراء:
«نسل أشجار تموت واقفة،
وأنهار تجري باتجاه نفسها
لا يشغلهم متى يطرق الغِنى
أبوابهم!»
وكما قلت من قبل يتداعى اللصوص، الذين ننسى أنهم أحد الأسباب الكبرى لفقر الآخرين دون أن يقول لنا ذلك، لكنه اللاشعور الذي أدرك أن الشاعر يريد أن يختصر العالم كفراشة بريئة تطل من الفضاء، ففتح له النوافذ المغلقة..
اللصوص الذين هم:
«أرواحهم صحراء
كما منازلهم فارغة موحشة
إلا من القلق والرطوبة والظلام»
ليأتي الفكر وهل يمكن حقا أن ينقذ العالم. ليس هذا السؤال له، لكن يأتي به الحديث عن الأيديولوجيين:
« تماثيل من رمل وضباب
لا يرون إلا أنفسهم
في مرآة الواقع المهمشة
عبدة إلهامهم،
لا الحضور الفعلي للأشياء»
حتى يقول:
«خلاصة نزيف عقولهم
القلق لا الأمل،
والتعريف الوحيد للحرية
سجن بأقفال صدئة،
والأحلام والكوابيس
في نهار صيفي طويل»
وعليك مثلي أن تنظر حولك إلى أين انتهت بنا الأيديولوجيات وكيف لم يتحرر العالم من سجنه واستمرت حروبه وضحاياه. عشرات الأمثلة حولك إذا شئت البحث. لكنه يترفق بنا ليتحدث عن الطيبين:
« ورثة الأرض الافتراضيون
والعالم في تأملاتهم تحية صباح
في كل خطوة لهم على الأرض
تنبت شجرة»
كذلك تأتي لنا الفراشة بالأصدقاء تخفف من ثقل العالم. فهم:
«نسل الهواء والماء
هبة الله
الحياة من دونهم ناقصة
والوجود حيرة
وغربة أينما يممت وجهك»
يقابلهم الأعداء حتى لا ننسى. وبالإيجاز الباهر للفراشة في الصورة والمعنى، فهم:
«يطاردون الفرح الطازج
حتى يصبح حزنا
يبعثون برماحهم وراء
ابتسامة
حتى تغدو بكاء
والأوطان في خرائط عبثهم
مقابر!»
وتتداعي الأمثلة كما قلت من المتأسلمين ثم الطغاة الذين هم:
«ليسوا من نسل البشر
هم وبعدهم الطوفان
لا اسم للوطن ولا وجود للإنسان».
يقابلهم الوطنيون الذين هم:
« الاستثناء،
في إنسكلوبيديا الفكر والسياسة
ملّة الحب
هم الذين يبدأ الوطن
تحياته الصباحية
للهائمين بحرف اسمه»
ولن أقف عند حديث الفراشة عن الانتهازيين فهم يحاصروننا ويكفي تلخيصهم في ما قال الشاعر أو الفراشة:
« من هم؟ ما أسماؤهم؟
عافتهم الأبجدية
مبنيون للمجهول»
ولأذهب إلى الأهل الذين هم:
بنك الحنان برصيد لا ينفد
مبرر الوجود الوحيد
والذاكرة الجمعية التي لا يطالها
صدأ النسيان والغياب
صيام الروح وصلاة الجسد.
وأترك لك بقية الديوان الذي يأتي فيه الحاكمون في النهاية.
تنتهي ويرتفع السؤال أمامك في الفضاء، كيف استطاعت الفراشة أن تضع العالم بين يديك. هو الشاعر عذاب الركابي الذي يمتعنا دائما بكل ما يكتب، ويفتح لنا الأبواب التي قد نراها بعيدة أو مغلقة.
كاتب مصري