
صالح الرزوق*
أصاب الجدة مرض فطري، وكالعادة لجأت لمبروكة. وهي واحدة من جاراتها. تقول لديها مفتاح النبي سليمان، وكانت مبروكة تربطه بشريط أخضر من المخمل وتدليه على صدرها كأنه الصليب الذي يتبارك به الأخوة المسيحيون. قدمت لها مبروكة خلطة بنية مصفرة، ليس مثل بيلون الاستحمام، ولكن أقرب لطين أو وحل الأرض الزراعية، ونصحتها أن تدهن نفسها به.
سألتها الجدة: أين.. حول رأسي؟
أغمضت عينيها وزمجرت، وهذا يعني أنها وسط رؤية، وتستشير الجن. وحسب زعم مبروكة كلهم من الأبالسة، باستثناء أتباع النبي سليمان، هم شياطين. ثم فتحت عينيها وقالت: ينصحك شمهود أن تدهني هنا.
وأشارت لما بين ساقيها.
اعترضت الجدة وهي تشهق: ولكن الفطور على رأسي.
ردت مبروكة: ولو.
ونفذت الجدة التعليمات بحذافيرها.. عتّمت الغرفة، وأغلقت النوافذ بصحف قديمة، ثم عالجت نفسها. بعد أقل من أسبوع تضاعفت الفطور، وسدت أذنيها، وبدأنا نكلمها بمكبر الصوت. وكان لدينا مكبر صوت قديم على شكل بوق الفونوغراف. وهو للوالد. واستعمله في المشاركة بالمظاهرات ضد قوات الانتداب، وتركه بعد أن نزح إلى حلب ليدرس في معهد إعداد المعلمين، واستقر هناك، في إدارة إحدى المدارس. وكنا نعيش في دارة أو بيت من أربع غرف وقبو وحديقة، في منطقة الحريري، وراء جبل الإذاعة، أو نزلة الكرة الأرضية كما تعرف اليوم. ولكن غالبا ما كنت أعيش مع الجدة، ولاسيما في عطلة الصيف. فهناك أجد نفسي أكثر من حلب. كانت في بيتها مساحة أوسع للخيال، لأن البيت عربي، ومكون من طابقين. في الأسفل للمعيشة. وفي الأعلى للاستجمام، ولو أننا في أوروبا لكان مناسبا لحمامات الشمس. وللبيت برج مخصص للحمام، أو هذا هو المقصود منه. ويشبه كذلك أبراج الكنائس في حلب، أو برج الحراسة في القلعة. شكله مضلع، وينتهي بقبة مثلثة مثل رأس السهم. ولكن لم تلجأ له أي حمامة. وفي الوقت الراهن يسكنه خفاش، وأحيانا تحط على قمته بومة بيضاء بلون الثلج. وكانت تخالسني النظر بعينين صفراوين، أشبه بالرادارات، ثم تنعق بصوتها المشؤوم. غير أنني كنت أتفاءل بها، للبوم صوت مخملي ودافئ. ولم تخطئ غادة السمان عندما جعلت البوم لوغو سلسلة أعمالها.
أخبرت الوالد بمرض الجدة.
سألني بالهاتف: هل رآها الطبيب؟
قلت له: مبروكة فقط…
قاطعني بصوت كهزيم الرعد: ما هذه التخاريف؟
وشخر بصوت أعلى: احملها إلى حلب، ولو على ظهر دبابة، ليراها الطبيب.
لحسن الحظ وجدنا قبل المغرب سيارة أجرة. حجزت مقعدا لها، ونصف مقعد لي. كان عمري حينها أقل من 15 عاما، والمقاعد هنا تقدر حسب العمر، حتى إن كراسي الحلاقين حسب حجم الرأس. الكبير بنصف ليرة، والصغير مثلي بربع فقط.
جادلتها إلى أن اقتنعت بضرورة السفر. قلت لها: وإلا قد يصبح وجهك مثل جلد السحالي.
وكانت لا تخاف في هذه الحياة إلا من الزواحف كالعقارب والسحالي والعناكب. ومنذ فترة لدغها عقرب ونامت في السرير 3 أيام، وهي تتلوى من الوجع.
رتب السائق الركاب، وأكرمنا بمقعدين في الخلف. الجدة بجانب النافذة لضرورة التنفس، وأنا محرم أو عازل بينها وبين شاب وامرأة. تحركت السيارة. ومرت بالمقابر الرومانية، وهي مدافن تغطيها الأعشاب. ثم دخلنا من تحت قوس معبد النبي اليهودي عاسوفير. ومن هنا خرجت أول نسخة مخطوطة من التوراة، ثم وصلنا إلى سوق الغنم، وبعد ذلك جبل الشيخ عقيل. وعند منطقة الراهب بدأت الجدة بالتذمر.
سألها السائق: خير خالتي؟
ردت: لا أحب هذا المقعد.
قال لها: لماذا؟
قالت: ضيق جدا. والله العظيم اختنقت.
وبالفعل كان أمامها مارد، لا يمنع النظر فقط ولكن يسد الأنفاس. وهكذا دخلنا بمفاوضات مع ركاب الصف الأول. وهم ثلاثة. وبالنتيجة وافقوا على التبادل مقابل تعويض مقداره خمس ليرات.
توقفت السيارة، وضغطت نفسي بين الجدة والراكب الثالث والسائق. وتدلت علبة السرعة بين ساقيّ مثل خرطوم الحنفية. ودار المحرك. وكانت علبة السرعة تلامس منطقة العيب. وزادت المصاعب كلما مد السائق يده للتبديل. وحاولت أن أسلي نفسي بمتابعة الطيور النادرة. بعضها من الكواسر، وكانت تحوم فوقنا على أمل أن تجد فريسة سهلة. وبعضها من الطيور الملونة والأليفة كالسنونو وعصافير الحب والتدرج، وكانت تمر من أمامنا على ارتفاع منخفض وبسرعة السهم.
وعند مخفر مدينة الفريكة عادت الجدة للتذمر.
سألها السائق: ما هي المشكلة الآن؟
قالت له: سأموت. نفسي يضيق.
نصحها أن تفتح النافذة. وبعد خمس دقائق اشتكت من تيار الهواء الجاف والغبار.
قال لها السائق: بسيطة. لفي رأسك بهذا المنديل.
ومد يده بغطاء رأس للذكور. مبرقش، من لونين أبيض وأسود، ويشبه الكوفية الفلسطينية. لم يمر عليّ في حياتي سائق طيب ومتعاون مثله. مع ذلك زعقت الجدة باشمئزاز: يا لطيف. تريد أن ألف رأسي بمنديل رجالي؟
وأصرت أن يتوقف، وغادرت السيارة، وهي تقسم أنها لن تتابع معه إلى حلب.
وقفنا في العراء والمساء يخيم ويسد أمامنا كل المنافذ.
غمرني اليأس، وقلت لها وأنا أتلفت حولي: يبدو أننا سننام في هذه البرية على الأرض؟
بالتأكيد لم يكن حولنا بنسيونات أو فنادق، لا وضيعة ولا ذات خمسة نجوم. ناهيك من أن خدمة «سرير مع إفطار Bed and Breakfast» لم تكن معروفة.
ردت بعناد: النوم في أي مخفر أفضل من هذا الحمار..
وأشارت إلى السيارة التي تبتعد عن أبصارنا، وهي تميل على دولابها الخلفي مثل صبي أعرج، وتجر وراءها بالونة من دخان عادم الاحتراق. وكانت ولا شك تستعمل الوقود العادي المحمل بالرصاص، ولم يكن أحد يسمع بسيارات صديقة للبيئة أو وقود أخضر.
بالنهاية لجأنا إلى مخفر قريب، دلنا عليه علم مزقته الشمس وعواصف الغبار. ومن هناك اتصلت بالوالد، وحالما سمع بأزمتنا، أتانا يهرول بسيارة أجرة خاصة.
*كاتب سوري