للأمريكي مايكل غولد ..«يهود بلا مال»: رواية الفقر كأداة تحليل نفسي واحتجاج سياسي

2025-08-07

هيفاء بيطار*

 

تستحق هذه الرواية «يهود بلا مال» للكاتب اليهودي الأمريكي مايكل غولد، دراسة على عدة مستويات، والرواية حوالي 300 صفحة نُشرت عام 2014 -2015 عن منشورات الجمل. تُصنف هذه الرواية ـ كما اتفق النقاد ـ رواية نصف مُتخيلة، لأنه يصعب الفصل بين السيرة الذاتية للكاتب، والمُتخيل، فهو كاتب تماهى مع تطلعات فقراء العمال، حتى إنه كان يرتدي ملابس قذرة وفضفاضة فوق جسد مُتسخ، وعند ولادته كان اسمه إتزوك إسحق عام 1893، لكن عند دخوله المدرسة الابتدائية في أمريكا، غير اسمه إلى إيرفين إيروين، للتخفيف من يهودية الاسم.
هرب الكاتب إلى المكسيك عام 1914، أي بداية الحرب العالمية الأولى كي لا يُحارب، وعاد إلى أمريكا نهاية الحرب، وكان صديقا لجون ريد، الذي كتب «عشرة أيام هزت العالم»، وكان التزامه بالقضايا الثورية نابعا من القلب وليس العقل، وقال عنه جورج آمادو: إن جيله من الكتاب تتلمذ على رواية «يهود بلا مال»، فهي تدعو إلى أدب يكتبه العمال الفقراء، وكان مايكل غولد يكره أرنست همنغواي وغيره من الكتاب الذين اعتبرهم كتابا تقليديين، يرضون بالتسويات، وأنصاف الحلول، وحافظ على ولائه لأفكاره طوال حياته. من الضروري ذكر تلك المعلومات لأن الكاتب أحد أهم شخصيات الرواية.
تمتاز الرواية بجرأة على مستويين، فمن جهة غاص في تحليل وتصوير القوة التدميرية للفقر، ولم يكتف بوصفه من الخارج كما يفعل معظم الكتاب ـ بل غاص في تحليل البنية النفسية والمعنوية للفقير، ومن جهة أخرى تجرأ وانتقد مظاهر الديانة اليهودية، خاصة الحاخامات وزعماء الصهاينة، الذين كانوا يستغلون اليهود الفقراء، لذا حصل الكاتب بجدارة على لقب مكسيم غوركي الأمريكي.

تدور أحداث الرواية في أفقر الشوارع في نيويورك وهو شارع الإيسد سايد، شارع أدنى طبقات المجتمع، وأكثرهم بؤسا وفقرا، شارع لا ينام يزمجر كالبحر ويتفجر كالألعاب النارية، وسكانه قوادون، ومقامرون وسكيرون، وسياسيون تافهون، وحمالو موانئ، وهو شارع بيوت الدعارة، وفيه مركز بائس لمعالجة أمراض الزهري. في هذا الشارع ترعرع الكاتب واسمه في الرواية مايكي، ومنذ طفولته كان عضوا في عصابة تسرق الفاكهة من العربات، وكانت تسليته المفضلة هو ورفاقة تعذيب القطط ورميها على أعدائهم الأطفال، يقول الكاتب (إنه عالم العنف رمي القطط وتعذيبها، كانت بدورها تعذبنا ونعذبها: إنه الفقر). وكان الزنجي الطفل أحد أصدقاء مايكي، وهو صبي يهودي شجاع، لكنه تحول إلى أزعر ومجرم بسبب الفقر والظلم، ويقول إن سلطة الدولة حولت هذا الطفل الزنجي إلى مجرم، وإنه لا يوجد مجرم أكثر إجراما من سلطة الدولة، فالطفل الزنجي الذي منع والده من ضرب أمه، اتُهم بأنه ارتكب جنحة، وأرسل إلى إصلاحية، حيث تعلم هناك بإتقان كيف يصير مُجرما، فيُجلد بوحشية، ويفقأ إبزيم الحزام عينه، ويعود الطفل إلى المجتمع بعين واحدة ومجرما.
يتعمد مايكل غولد استعمال الألفاظ المهينة والساخرة، ليُظهر الخلافات العرقية والطبقية في المجتمع، ويظهر ذلك في أسلوبه في استعمال مفردات الشارع المتداولة، بطريقة تشبه استعمال جيمس جويس لهجة أهالي دبلن في روايته «صورة الفنان في شبابه»، ويتصف أسلوب غولد بالكثافة والسخرية اللاذعة، ويستعين بالجمل القصيرة كضربة ملاكم. لم أقرأ لكاتب يصور القوة التدميرية للفقر مثل مايكل غولد، فعدا عن لعب الأطفال بتعذيب القطط ورميها، كانت لعبتهم المفضلة أيضا، نبش القبور واللعب بعظام الأموات وتخيل قصص خيالية عنها، شارع يعج بالدعارة التي تُمارس علنا وعلى مرأى من الأطفال، الذين بدورهم يتعرضون لاستغلال جنسي، والأطفال كالقطط الشاردة مرمية في الشارع، وأن تدهس شاحنة طفلا فليس بالأمر الخطير، وأن يقطع تران رأس طفل ويفصله عن جسده حادثة مألوفة في هذا الجو الكارثي الوحشي القسوة من واقع الفقر.

المستوى الثاني للرواية هي تحليل الكاتب لعلاقته بالديانة اليهودية، خاصة إظهار التعصب الديني والكره ـ حسب رأيه ـ بين اليهود والمسيحيين، لأن اليهود لا يؤمنون أن المسيح قد جاء وصلب، بل إنهم ينتظرون مسيحهم الذي سيأتي إلى العالم في اللحظة المناسبة كملك. تمثل أم الكاتب الشخصية اليهودية النمطية، فهي تؤمن بأن التلمود أعظم كتاب في الدنيا، وليس هناك جحيم من نار في الديانة اليهودية، وهم لا يعذبون الأطفال بمفهوم الخطيئة الأصلية والعقاب، ولا يخافون من الغيب، كانا أم الكاتب إنسانة طيبة القلب لا تعرف الكره الحقيقي، وتساعد كل الناس وتفني نفسها في العمل، خاصة الأعمال الخيرية غير المأجورة، ومع ذلك لا تنفك تردد أنها تكره المسيحيين كرها أعمى، لأنهم أجبروا اليهود على المعمودية، وكانوا يعذبونهم ويقتلونهم إذا رفضوا المعمودية، ولأن مسيح المسيحيين ليس المسيح الذي يؤمن به اليهود وينتظرونه، بل مسيح المسيحيين تعامل وتحالف مع الوثنيين، تستحق دراسة شخصية الأم فائضا، من التحليل النفسي والدراسة الاجتماعية لطبيعة التعصب، فهي إنسانة رائعة على المستوى الإنساني حتى إنها تساعد جاراتها المسيحيات متعاطفة مع بؤسهن، لكن عقلها متصلب بالحقد والأفكار غير القابلة للجدل والنقاش.

حول كره المسيحيين، الذهنية المتعصبة واحدة، إنها تُسلم بحقائق مغلوطة وتؤمن بها إيمانا أعمى غير قابل للنقاش، وهنا تكمن الخطورة، لأن استغلال تعصب كهذا يكون سهلا جدا، إذ يكفي إثارة أي حدث أو افتعال مشكلة طائفية حتى تهب غريزة التعصب العمياء، وهذا ما تبرهنه الأحداث الدموية الإجرامية التي تحدث في عالمنا العربي خاصة، من إثارة الكره بين الطوائف، هذا الكره الذي يقود لأفظع الجرائم. تموت أخت مايكي (بطل الرواية) وهي طفلة إذ تدهسها شاحنة، وتنهار الأم بوفاة ابنتها، ويضطر مايكي وهو في عمر 12 سنة للعمل في المصانع، ويصف ببراعة الاستغلال الحقير للعمال، حيث يعملون لساعات طويلة وبأجر ضئيل، وكم صدمتني جرأته حين وصف كرهه لدروس اللغة العبرية، وقال إنها لغة تافهة، وإن المعلم جاهل ورائحته كريهة ومقززة، يشفق الكاتب على الفقراء الذين كانوا يؤمنون بقوة السحر، وبأنه ذات يوم سوف تحدث لهم حوادث تغير حياتهم، ووالد الكاتب ووالدته كانا من هؤلاء المؤمنين، وكانا يزجرانه حين يتساءل: لماذا خلق الله الذباب الملتصق بعيوننا؟ لماذا خلق الله البق الذي يمص دماءنا؟ هل إله المحبة الذي تتحدثون دوما عنه، هو نفسه الإله الذي خلق الذباب والبق الذي يمص دماءنا؟
أسئلة كانت تتفتق في ذهن الأطفال والجواب عليها التهديد بالعقاب وبإخراسهم، لقد لُوحق مايكل غولد كمعارض للسلطة الأمريكية عام 1950 واضطر للهرب إلى فرنسا، في الوقت الذي طورد فيه شارلي شابلن أيضا وكانت الحملة ضد المعارضين تُسمى (حملة مطاردة الساحرات).
ما يكل غولد هو مكسيم غوركي أمريكا، رغم أن عام 1930 كان من أقسى الأعوام التي يعصف فيها الكساد في أمريكا فإن روايته «يهود بلا مال» طُبعت 11 مرة في السنة الأولى. رواية عميقة ومؤثرة على عدة مستويات، وأحب أن أختتم بالعبارة الأخيرة التي استعملها الكاتب في روايته، حين وصف العين المتبقية للزنجي بعد أن عُوقب وهو طفل بالضرب المبرح من قبل سلطة الدولة المتمثلة بالشرطي، وفقأ عينه وخرج من الإصلاحية مجرما، يقول غولد: هل هناك مجرم أكثر قساوة من الدولة، إن عين الزنجي عين ينسكب منها الازدراء والجشع والريبة، كأنها فانوس أبدي لاحتقار العالم.

 

*كاتبة سورية









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي