الكاتب الهولندي موريتس ده بروين : شهادة الـ"ضمير" في إبادة غزّة

2025-07-11

عماد فؤاد

في ظلّ صمتٍ مطبق تجاه جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل يمينًا ويسارًا، من غزّة التي أبيدت تمامًا، بشرًا وحجرًا، إلى ماكينة القتل والتهجير في مخيمات الضفّة الغربية، وهجمات المستوطنين البربرية ضد سكان القرى الفلسطينية، ومن البلطجة الإسرائيلية في لبنان وسورية إلى اليمن وإيران، يخرج صوت الكاتب الهولندي الشاب موريتس ده بروين في كتابه الأحدث "الضمير: حول إسرائيل وفلسطين" ليقدّم شهادته على وحشية الاحتلال الإسرائيلي، في واحدٍ من أكثر النصوص جرأة في مواجهة الرواية الصهيونية.

موريتس ده بروين كاتب هولندي يهودي من مواليد عام 1984، نجت والدته من الهولوكوست، لكنه يرفض أن يتواطأ بالصمت مع الجريمة التي ترتكب منذ أكثر من 17 شهرًا الآن في قطاع غزة، فيكتب: "كيف يمكن للعالم أن يدّعي أنه تعلّم شيئًا من الهولوكوست، بينما يراقب إبادة الفلسطينيين بهذا الصمت المطبق؟ كيف يمكن لذكرى مأساتنا أن تتحوّل إلى سلاح لقتل الآخرين"؟

سؤال يُلخص جوهر كتاب "الضمير: حول إسرائيل وفلسطين" (2025)، الذي يتحوّل من سيرة ذاتية إلى مانيفستو مقاوم، ووثيقة تفضح كيف تحوّلت ذكرى الهولوكوست إلى أداةٍ لتبرير إبادة الفلسطينيين، ومن كونه مجرد سردٍ أدبي، إلى محاكمة أخلاقية للصهيونية، التي يعتبرها ده بروين "مشروعًا عنصريًا بامتياز"، وهو يكتب: "زرت إسرائيل لأوّل مرة كشاب مبهور بالحلم الصهيوني، لكني اكتشفت أن هذا الحلم مبني على جثث الفلسطينيين، رأيت كيف يحوّل الجنود الإسرائيليون حياة الفلسطينيين إلى جحيم يومي عند الحواجز، كيف يهينون العجائز ويذلّون الأطفال، في تطبيق ممنهج ومستمر لممارسة أبشع أنواع التمييز العنصري في العصر الحديث".

وبينما تدكّ طائرات الاحتلال الإسرائيلي بيوت الغزيّين، ويُذبح الأطفال أمام كاميرات العالم، جوعًا وعطشًا وقصفًا، يصوغ ده بروين كلماته قاطعًا حبل الصمت الغربي: "إسرائيل لا تدافع عن نفسها، بل ترتكب جرائم حربٍ يومية باسمنا كيهود، وأرفض أن يتم هذا باسمي"! ويضيف في موضع آخر: "كيف أشرح لقتلاي في المحرقة أن ذِكراهم تُستخدم اليوم لتبرير قتل آخرين؟ كيف أقف أمام أجدادي الذين ماتوا في معسكرات الاعتقال النازية وأقول لهم: لقد صمتُّ بينما تُرتكب مجزرة غزة باسم معاناتكم"؟ 

عنصرية ممنهجة

ينقسم الكتاب إلى جزأين: الأول يحكي تحوّل الكاتب من "يهودي نشأ على تقديس إسرائيل" إلى ناقدٍ شرسٍ للصهيونية، يتذكّر كيف كان يتعلّم في المدرسة أن إسرائيل هي "الدولة الوحيدة التي تحمي اليهود"، بينما كان اسم "فلسطين" غائبًا كأنه شبح، ويعود إلى لحظة اكتشافه الحقيقة المروعة: "في مكتبة أمستردام، وقعت عيني على كتبٍ عن النكبة، رأيت صورًا لطرد الفلسطينيين من قراهم عام 1948، وسألت نفسي: أين كان هذا في مناهجنا الدراسية؟ لماذا أخفوا عنّا أن إسرائيل بُنيت على أنقاض شعبٍ آخر"؟

  "في حوار مع جندي إسرائيلي عند حاجز قلنديا، يسأله ده بروين: "لماذا تمنع هذا الطفل الفلسطيني من الوصول إلى مدرسته"؟، فيجيب الجندي ببرود: "هذا ليس طفلًا، إنه عربي""

أما الجزء الثاني، فهو تقريرٌ صادمٌ من أرض الواقع؛ بعد تردّد طويل، يقبل الكاتب الشاب دعوةً من منظمة حقوقية لزيارة الأراضي المحتلة عام 2024، وهناك في الخليل، يشهد كيف يحوّل الجنود الإسرائيليون حياة الفلسطينيين إلى جحيم. في حوار مع جندي إسرائيلي عند حاجز قلنديا، يسأله ده بروين: "لماذا تمنع هذا الطفل الفلسطيني من الوصول إلى مدرسته"؟، فيجيب الجندي ببرود: "هذا ليس طفلًا، إنه عربي".

هذا الموقف يعلق في ذهن الكاتب كرمز للعنصرية الممنهجة التي يتأسّس عليها المشروع الصهيوني، يعلّق على الحادثة بقوله: "في تلك اللحظة فهمت أن ما يحدث هنا ليس نزاعًا سياسيًا، بل نظام فصل عنصري يشبه الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، مضافًا إليه حليتين: دينية وتاريخية".

تشكل هذه المشاهدات الشخصية جوهر الكتاب الذي أثار عاصفة من المناقشات في المنابر الإعلامية الهولندية والبلجيكية منذ صدوره في نيسان/ أبريل الماضي، حيث ينتقل الكاتب من موقع المراقب إلى موقع الشاهد الذي يحمل مسؤولية كشف الحقيقة، يصف زيارة لمستشفى في غزة بعد قصف إسرائيلي: "رأيت أطفالًا مشوّهين بلا أطراف، أمّهات ينشدن أولادهنّ تحت الأنقاض، أطبّاء يبكون لأنهم عاجزون عن إنقاذ المرضى بسبب نقص الأدوية، هذه ليست حربًا، هذه مجزرة ممنهجة".

ما يميز "الضمير: حول إسرائيل وفلسطين" عن أعمال ده بروين السابقة، تحوّله الواضح من الكتابة التأملية إلى النضال السياسي المباشر، إذا كان كتابه السابق "محرقتي أنا أيضا" (2020) غوصًا في تأثير الهولوكوست على هويته كيهودي، من خلال حوار طويل أجراه مع أمه الناجية من معتقلات النازية، وروايته "رجل يتحطم" (2024) كانت بحثًا في الذكورة والهشاشة، أمّا كتابه الأحدث فيشكل ذروة سياسية في مساءلته لجذوره، ليتحوّل ده بروين من كاتب يروي ماضيه إلى إنسان يشتبك مع واقعه السياسي وجذور هويته كيهودي، الفرق الجوهري هو أن الكتاب الجديد "يلغي المسافة بين الأدب والنضال"، يقول الكاتب الشاب في مقابلة صحافية: "لم أعد أهتم بفنيات الأدب حين تشهد غزة إبادة جماعية، الكلمات يجب أن تكون سلاحًا في وجه الظلم، ووسيلة لكسر حاجز الصمت".

هذا التحوّل الجذري في خطاب ده بروين جعل منه أحد أكثر الأصوات اليهودية جرأة في نقد إسرائيل، ما كلّفه هجمات شرسة من اللوبي الصهيوني النشط كالعادة في أوروبا، وخاصة في هولندا وبلجيكا، واعتبر كتابه "خيانة عظمى" في نظر المؤسسة الإسرائيلية، لأنه يهاجم أسطورة "اليهودي الضحية" التي تُستخدم لتبرير العنف، لكن ده بروين لم يتراجع أمام الهجمات التي طاولته وطاولت كتابه في أكثر من منبر إعلامي هولندي، بل ردّ بقوة: "إذا كان نقد جرائم الحرب معاداة للسامية، فأنا فخور بأن أكون - بهذا المعنى - معاديًا للسامية!".

  موريتس ده بروين (ضفة ثالثة)

الضحية الأبدية

يتعمق الكتاب في تحليل الآلة الدعائية الإسرائيلية التي تعمل على تبرير جرائم الحرب، ويسخر ده بروين من مصطلح "الدفاع عن النفس" الذي تروّج له إسرائيل قائلًا: "كيف يمكن لدولة تمتلك أحد أكثر الجيوش تطورًا في العالم، مدعومة بأقوى الدول، أن تدّعي أنها تدافع عن نفسها أمام مقذوفات بدائية تطلقها حركة حماس؟ حماس التي تصورها إسرائيل على أنها إرهابية ليست إرهابية في شيء، هم أناس يدافعون عن أرضهم المحتلة، كيف يمكن لقوة احتلال أن تكون في موقع الدفاع"؟. ويضيف: "في إسرائيل، حتى المعارضين للحرب لا يتحدثون عن ضحايا غزة، كأن الفلسطينيين أشباحٌ لا تُرى، هذا ليس جهلًا، بل عنصرية ممنهجة".

لا يكتفي الكتاب بتوثيق جرائم الحرب، بل أيضًا يحلّل بعمق التواطؤ الغربي معها، رافضًا فكرة "الحياد" الغربي، معتبرًا إياه: "خرافة تخفي مصالح استعمارية عميقة"، لذلك يخصص ده بروين أجزاءً كاملة من كتابه لفضح دور الحكومات الأوروبية، بما فيها هولندا، في دعم آلة القتل الإسرائيلية، يكتب: "حين تقرأ أن حكومة هولندا، بلدي، وافقت على صفقة أسلحة مع إسرائيل بقيمة مليار يورو، في نفس الأسبوع الذي قتلت فيه الطائرات الإسرائيلية عائلة فلسطينية كاملة، تفهم أن دماء غزة تلطّخ أيدي جميع القادة الأوروبيين".
"بينما تدكّ طائرات الاحتلال الإسرائيلي بيوت الغزيّين، ويُذبح الأطفال أمام كاميرات العالم، جوعًا وعطشًا وقصفًا، يصوغ ده بروين كلماته قاطعًا حبل الصمت الغربي: "إسرائيل لا تدافع عن نفسها، بل ترتكب جرائم حربٍ يومية باسمنا كيهود، وأرفض أن يتم هذا باسمي"!"

أحد أكثر الجوانب إثارة في الكتاب هو تحليل ده بروين للاستغلال الصهيوني لذكرى الهولوكوست، إذ يسخر من المقارنة بين معاناة اليهود في أوروبا ومعاناة الفلسطينيين اليوم، قائلًا: "عندما يستخدم نتنياهو مصطلح "المحرقة" لوصف أي انتقاد لإسرائيل، فهو لا يسيء إلى ضحايا الهولوكوست فحسب، بل يحوّل مأساتهم إلى أداة ابتزاز عاطفي". هذا التحليل الجريء يمس أحد أكثر التابوهات حساسية في الخطاب الغربي المعاصر، حيث يرفض ده بروين احتكار المعاناة اليهودية كذريعة لإسكات أي نقد لإسرائيل، ويذكر كيف أن الصحافة الهولندية تروّج للرواية الإسرائيلية بكثير من التلاعب: "عندما قُتل 50 فلسطينيًا في قصف رفح، كتبت الصحف: "إسرائيل تدافع عن نفسها"! لكن عندما قُتل جندي إسرائيلي واحد، أصبح الخبر: "مأساة تهز إسرائيل!" فأين العدالة في هذه اللغة"؟

  ما يميز "الضمير: حول إسرائيل وفلسطين" (يمين) عن أعمال ده بروين السابقة، تحوّله الواضح من الكتابة التأملية إلى النضال السياسي المباشر (من اليسار: كتاب "محرقتي أنا أيضا")

ما يجعل "الضمير" عملًا مهمًا هو جرأة ده بروين في كسر الصور النمطية عن الهوية اليهودية، يرفض فكرة أن اليهودي الحقيقي يجب أن يكون صهيونيًا، ويكتب: "إن يهوديتي لا تعني ولائي لإسرائيل، بل على العكس، إيماني بالعدالة يجبرني على مقاومة هذا الاحتلال البشع الذي تمارسه الآلة العسكرية الجهنمية لإسرائيل، ليس في غزة وحدها، بل في الضفة الغربية وحتى خارج أرض فلسطين المحتلة، إذ تعبث إسرائيل اليوم وتدمّر في كل مكان: في لبنان وسورية واليمن وإيران".

ينتهي الكتاب برسالة قوية تخلط بين الأمل واليأس، فمن ناحية، يعبّر ده بروين عن إحباطه من صمت العالم: "أحيانًا أشعر أن الإنسانية لم تتعلّم أي شيء من الهولوكوست، الصمت نفسه، الأعذار ذاتها، التواطؤ بعينه". لكنه في نفس الوقت يؤمن بقوة المقاومة الفلسطينية: "الشعب الفلسطيني علّمني معنى الصمود الحقيقي، في غزة رأيت أطفالًا يعيدون بناء بيوتهم المهدّمة من أنقاضها، وفلّاحين يزرعون أرضهم رغم الاستيطان، وأمّهات يرفضن الرحيل رغم القصف، هذه ليست مقاومة مسلّحة فقط، بل مقاومة وجود، مقاومة حياة".

في "الضمير"، لا يسعى موريتس ده بروين إلى تقديم حلول سياسية، لأنه ببساطة لا يفهم السياسة "إن لم تكن قائمة على العدل"، لكنه يمتلك الجرأة أن يقف أمام جذوره اليهودية ويُسائلها، واضعًا أمام القارئ، كما أمام اليهود أنفسهم، مرآته التي لا تكذب: "عندما تنظر إلى غزة، لا تسأل لماذا يفعلون هذا بالفلسطينيين، بل اسأل لماذا نسمح نحن بحدوث هذا"؟

أسئلة تقود القارئ الغربي إلى استنتاجات مروعة عن طبيعة المشروع الصهيوني، الذي يرتكز حسب ده بروين على "أسطورة الضحية الأبدية" التي تبيح له ارتكاب أي جريمة باسم "الأمن"، لذلك كان من الطبيعي أن يختتم ده بروين كتابه اللافت هذا بهذه السطور: "لا أرجو شيئًا من كتابي هذا، إلّا أن يجعل من المستحيل على أيٍّ كان أن يدّعي يومًا أنه لم يكن يعرف الحقيقة، لأن المعرفة مسؤولية، والصمت جريمة".









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي