
عبدالله الحامدي*
في المرتين القليلتين اللتين زرتني فيهما في الغربة، لم أرك يا أبي، ولم ترني، أمضينا الوقت في البحث عن بعضنا، كأننا كنا نلعب الغميضة في «حوشنا» الكبير، وكل يوم قبل الخلود إلى النوم تربت على كتفي، مواسياً: أبليت بلاءً حسناً، غداً أراك! تقول لي: لا تؤذِ أحداً، حتى لو أذاك، وتقول: كن ذا حلم مع الصغار (ولكنهم كثر يا أبي)، واغضب متى شئت على الكبار (ولكنهم أقل الآن يا أبي)! أوصيتني بالأصدقاء، بعضهم حيث أنت الآن، سأجلب لكم الحلوى بأكياس كبيرة، وأصنع منها طائرات ورقية، وأمشي على ضفة نهر الفرات إلى الجسر المعلق معك، كي نرى جدتي (أمك)، وهي تغادر ألعابها الطفولية إلى بيت جدي، قبل أن يكتشفا عامودا، والعيد. سترَ «خديجة» ـ الهاربة من قصف الفرنسيين ـ مع «فيض الله»، وهي تخرج صورتك المخبأة في جيبها السري تحت طبقات الأثواب، ستمسح الضوء بملفعها الناصع، وتقارن بياضها بخيط الهلال الساطع، ثم تعيدها سالمة حتى الشهر الجديد، كم كان الوقت جديداً وأليفاً ورحيماً بنا يا أبي. لما لم تخبرني بأن الحياة صعبة إلى هذا الحد؟ كانت صورتك المعلقة تسند الجدار كي لا يقع، ومرة حين اهتزت قالوا في الراديو: إن زلزالاً ضرب الأرض، لم أكن أعلم أنك تضبط التوازن من هذا الصالون الصغير بين غرفتين، كأنه مركز الكون.. يا أبي أحبك، كم مرة سأقول أحبك كي تعود؟ أنا القوي بك ضعيف من دونك، أذرع الأرض لأدرك أن كل ما قلته لي من خيال حقيقي: الشمس والكواكب والمجرات، وعندما أشرت إلى نجمة القطب في الشمال، وسط عتمة شديدة فوق سطح بيتنا الطيني، عرفت موقعي في «درب التبانة».. الدرب الذي تحب يا أبي. كنت أستعد للعودة إلى الوطن كل صباح، وريثما يتصالح السوريون مع أنفسهم، ومع الآخرين، سهر الشباب طويلاً، ولم تنتهِ المأساة، ولم أعد.
فهلا انتظرت قليلاً، ربع قرن آخر، كي أعود. عد يا أبي، مرة واحدة وأخيرة، لعلي أزحزح هذه الصخرة «الغريبة» عنك وعني مليمترا واحدا، لتسمعني وأسمعك! سافرت إلى اليمن، معلماً، وضيفاً عزيزاً لدى الشاعر البردوني، تركتنا أنا وإخوتي في معركة الانتقال من الطفولة إلى المراهقة، نكبر على رسائلك المقبلة من جبال إب الشاهقة، تشبه ماردين علوّاً وأحلاماً، وفي الصيف تشرح لنا هموم الاغتراب، فلا نفهمها، نخاطبك بلغة الأشواق، وتدرّسنا مادة الرياضيات، تلك التي قربتنا إليك ولم تبعدك عنا، على الرغم من غموضها، طوعت أرقامها، وفككت زواياها، جبرت كسورها، ورسمت فراغها الهندسي، كباقة ورد في مزهرية منحوتة باليد، أذكر كيف صوبت لي إحدى المعادلات قبيل امتحان البكالوريا، فنجحت، وما زال طلابك النجباء يسألونني عنك، فأجيبهم: عاش «الأستاذ ناظم»، ثمانين حولاً مؤمناً بالحل في آخر المسألة. وتبدأ صداقتنا أيام الجامعة، تحديداً في ساحة «باب الفرج»، حين وقفت تتأمل الساعة العتيقة، ليأخذنا الحديث إلى شبيهتها في مدينة القدس، والتحاقك بمعسكر «الراموسة»، ثم الجيش الشعبي، ومن هناك سأعرف سبب وجود البندقية الكندية ذات الطلقة الواحدة في «القُبالة»، ولماذا طليت شبابيك البيت باللون الأزرق؟ وتحرص على إحكام إغلاقها كلما سمعت أزيز الطائرات ليلاً، في حرب تشرين التحريرية لدى السوريين، أو أكتوبر المجيدة لدى المصريين! أمام الساعة، في اليوم التالي، وقفت مرة أخرى، هل كنت تود القول: إن الزمن ـ الذي لا يتوقف ـ لا يتقدم ولا يتراجع، إنه هو هو، يدور في المكان ذاته، وإن الأبد لحظة تتكرر، أو لا تتكرر في ملكوت الله!
تروي لي قصة لقائك «جكر خوين»، الشاعر الكردي العظيم في منتصف الستينيات، أنت العروبي، ناصري الهوى، غيفاري الطبع، طلق المحيا، محمدي الطريقة. يدعوك للاجتماع مع الصحب في غرفته في فندق في حلب، وقبل سفره إلى السويد، ربما عرفاناً لصديقه (جدك) في خندق الدين، يهدي إليك آلة جديدة للحلاقة، ويلقي قصيدة في مديح الشيخ، لكنه الآن ـ بعد الثورة البلشفية ـ تحول إلى خندق الأدب، كلاهما (الدين والأدب) يتممان مكارم الأخلاق، وينشدان خدمة الإنسان، أمرر كلاماً يشبه الاعتراض همساً في حضرة لطفك الحنان: لكنها السياسة يا أبي، ثالثة الأثافي وقاصمة ظهر البشر في هذه الرقعة الطيبة، وأسأل: لم لا تكون الأحزاب لدينا أكثر تواضعاً؟ فتخفض سقف أهدافها، كي لا تصبح «عربة أمام الحصان»، وتمسي بمرور الوقت فريسة لأوهامها؟ فليكن هناك مثلاً، حزب للمواطن، وآخر للحديقة، وثالث للخبز، ورابع للابتسامة، وخامس للكهرباء، وسادس للكتاب، وسابع للماء، يصمت، ثم يردف: في زماننا لم يكن الهواء ملوثاً هكذا، يا أبت! تصادق المفكر القومي السوري أنيس حنا ميديواية، صاحب مكتبة اللواء في القامشلي، وتأتي لي بأعمال الشاعر الهندي طاغور، ومختارات من الشعر اليوناني الحديث، أظنك اخترته لي لمفردة «الحديث»، لتلفت انتباهي إلى أن الإغريقيين لم يقطعوا الصلة بماضيهم، كي لا يضيعوا، وجئت لي بكتاب «فقه اللغة» للثعالبي، وضعته إلى جانب «الحب من الوريد إلى الوريد» لغادة السمان، و»السيف والتابوت» لعبد السلام العجيلي، و»ألف ليلة وليلة»، ذلك الكتاب الذي أهدانيه جدي بنسخته العربية الأولى.
كنت أتابع أخبار مكتبتي المنزلية، جنباً إلى جنب مع أخبار الأحبة في جزيرتنا الحبيبة، عشية وصول الغزاة الجدد، وأعوانهم، ومن لم يقرأ التاريخ جيداً، كان الجميع يعجبون من خوفي على الكتب، مثل خوفي على الناس، إلاك، وما زلت، حتى تلاشت المكتبة بسكانها و»نيرانها» العصية على النسيان في رياح الحرب المديدة. أشتاق إليك يا أبي، من قبل أن تمضي، أشتاق إليك، أغنية لم تغنها أم كلثوم، فما سر العلاقة بينك وبين المذياع؟ هل كنت تدير شؤون الدول بين الغرب الاستعماري والشرق الحضاري؟ كم مرة تنبأت بما حدث، ورميت الصحيفة جانباً لأنها كتبت ـ بعد دهر ـ أقوالك؟! الآن عرفت لم كان العلمانيون يحبونك والدينيون، من كل الطوائف والمعتقدات. أتذكر الكاتب أحمد عادل؟ لا أعرف (بعد اختفائه القسري) إن كان ما زال بيننا؟ أم هو الآن معك! لم أكن بحاجة للتعريف بينكما؛ يحدثني عن فكرك الموسوعي وفلسفتك الجمالية، فأحدثه عن رأيك في النظرية النسبية لأينشتاين على وجه الدقة، بآيات من القرآن الكريم، منها، «في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون» (السجدة: 5). أو عن نظرية التطور لدارون، التي فهمتها في سياقها الطبيعي، دون الغيبي، مفسراً نتائجها الوراثية، بالإشارة إلى إمكانية التحول والاصطفاء لدى الكائنات، كما في قوله تعالى: «كونوا قردة خاسئين» (البقرة: 65). نختلف معك ونتفق، ولكننا على الدوام نزداد حباً ومعرفة. شكرتك أيضاً، حين التقيت في عزاء في الدوحة سامي القباني، ظنني أحد طلابه، فأجبته: إنه أبي، لقد نشأنا على كتب الطب لوالدك (صبري القباني)، مثل: «طبيبك معك» و»الغذاء لا الدواء».
يا أبي كنت طبيب العائلة وحكيمها، وعلى الرغم من الهجمة الشرسة في معركة المرض المخاتل، قاومت ببسالة العارفين المطمئنين حتى الرمق الأخير. آن لك أن تستريح قليلاً من عناء الحياة، ووَعثاء السفر.. يا أبي، حملت هم الشام، وأنت تطوف العالم حولها، كم كنت أود الطواف معك، لولا إيماءتك لي بمواصلة القتال في جبهة أخرى ـ كما كنت تفعل دوماً ـ بالحرف. في لبنان والأردن وتركيا، كانت أيام إسطنبول شديدة الوطء على عظامك الواهنة، ومع اقتراب الطريق من نهايته، قررت النزول لدمشق، فوق ثراها وتحت سمائها، ولحكمة ـ لم تحكها لنا بعد ـ رحلت إلى وجهة أخرى، مبتسماً كعادتك.
*كاتب سوري