
عمر الحمود*
كنتُ أحلمُ بامرأةٍ جميلة، عطشى للعشق، بيني وبينها مودة، وتخضلّ بحرف همسة، وتسكر في رقّة لمسة. وسُرِقَ حُلمي. استيقظتُ، ولم أجد امرأةً جميلة ولا امرأة قبيحة.
وقدّمت شكوى إلى القاضي، فسألني: هل كنت تحلم برخصة؟
قلت مع شهقة دهشة: لا أعلم أنّ الأحلام تحتاج إلى ترخيص.
قال منتصراً: القانون لا يحمي المغفّلين، أنت تخالف تعليمات الوالي يا رجل الحلم المسروق. وحكمَ عليّ بغرامةٍ مالية.
وفي النهار لهثتُ جرياً من ديوانٍ إلى آخر، وحصلتُ على رخصة.
وانتظرتُ الليلَ لأحلم بأمانٍ وسلام.
وفي الربع الأخير من الليل حلمتُ برغيف خبزٍ شهي حار، خمّرته أنفاس أمّي، وباركته دعواتها. وسُرِقَ حُلمي. ففي الصباح لم أجد كسرة خبز يابسة تُسكِت جوعي. وعند الضحى كنت على باب القاضي.
وجمع القاضي لصوص المدينة، وجيء بي للتعرّف على السارق، ولم يكن السارق بينهم.
فاختصرتُ خيبتي في ابتسامةٍ مرّة، وانصرفت.
وفي السوق رأيت السارق، لكنّه أنيقٌ، تُغلّفُه ثياب حرير، وتُثقِل جيوبه الدنانير.
نقلت الأمر إلى القاضي، فصاح مرعوباً: إنّه شيخ التجّار.
وحكمَ عليّ القاضي بجرم الافتراء على رمزٍ من رموز المدينة، ورماني في الحبس.
أنهيتُ مدّة حبسي، وخرجت مقوّس الظهر، أبيض الشعر، أتعثّر في خطواتي، وترتجف يداي، بعد أن كان جسمي برشاقة راقصة باليه، ونمت نوماً عميقاً، وحلمت بأنّ في جيبي كيس مال، يوفر لي عكاّزةٍ ناعمة قوية، تُعينني على المشي.
وسُرِقَ حُلمي.
رفعتُ الأمر إلى القاضي، وكعادته سألني: أتعرف السارق.
أجبته: أعرفه من بين محشر رجال.
وجمعَ اللصوصَ في المدينة، ولم يكن السارق بينهم.
وعند مروري في منطقة القصور رأيت السارق، كان عابس الوجه، طويل القامة، يراجع أرقاماً وسجلاتٍ.
أسرعت إلى القاضي، فصرخ في وجهي: الويل لك إنّه صاحب الخراج.
وبلا محاكمة حكم عليّ القاضي بحبسٍ انفرادي مع جلدٍ أمام الملأ.
وبعد مدة حبسٍ، وشفاء ظهري من الجَلد رحتُ نائماً، وواعداً نفسي بنومٍ هنيء لا أحلام فيه، لكنّ حلماً مشاغباً جاءني، ودون ترحيبٍ منّي، حلمت فيه بـأنّني صاحب مكانة عالية.
وسُرِقَ حلمي.
فعند الفجر كانت يقظتي، ولم أجد ظلاًّ لأيّ مكانة.
فرحت إلى القاضي، وأنا على قناعة بأنّه سيحكم على السارق حتماً، وسيرأف بحالي، وعفا الله عمّا سلف.
وكما في المرّات السابقة جمع اللصوص، وعاينتهم لأحدد السارق، فلم أجده بينهم، فخرجتُ مطروداً مقهوراً، ووجدتُ السارقَ في ساحة المدينة، ومظاهر الرغد لا تخفى عليه، وعلى كتفيه إزار من جوخٍ معرّقٍ بالقصب، وعلى عجلٍ عدت إلى القاضي لأردّ اعتباري، فغضب منّي قائلاً: إنّه كبير الوجهاء.
وسُجِنْتُ من جديد.
وبعد تنفيذ حكم السجن قررتُ أن لا أنام حتى لا أحلم، فما وراء الأحلام إلا المصائب، لكنّ النوم سلطان، غلبني، ونمت، فحلمت بـأنّ الله وهبني ليرات من الذهب.
وسُرِقَ الحلم، والسارق عابس الوجه، طويل القامة، عريض الكتفين، ممتلئ الكرش، وسياط غلاظ من جلد الأباعر في يديه، ونياشين وأوسمة على صدره.
وذهبت للقاضي، وقبل أنْ يجمع لصوص المدينة قلت له، وأنا أمعن النظر في وجهه: لا حاجة إلى ذلك، فالسارق يسكن على مقربة منك، في حارة القصور.
قال: من هو؟
قلت له: إنّه صاحب الشرطة.
وحكم عليّ بالجنون، وعلى وجهه ملامح شعور عارم بالانتصار.
وفي مشفى المجانين رددت آيات الله الحافظة، وقلت للمجانين: إنْ رأيتموني نائماً أيقظوني حتى لا أحلم.
هزّوا رؤوسهم كدمى ضاحكة، ولأعرف هل فهموا مرادي، أم أنّهم استغربوا من طلب رجل يرونه أكثر جنوناً منهم، وناموا مثلي، ولم يوقظني فرد منهم.
قررت أن أقاطع الأحلام، وأخفقت، فلا يبعد النعاس عنّي بمقدار مسافة إلا ليُسرج خيول النوم إبراقاً إليّ، فتسري بي إلى حضرة نوم، أرتّل فيه أذكار حلم جديد.
وبعد مشاورات مع المجانين قالوا لي: أنت أسير أحلام، لن تخرج منها إلا بالتخلّص من رأسك.
قلت: كيف أمشي إلى حتفي، هذا جنون؟
صاحوا بصوت واحد: هذا عين العقل، والجنون أن تحيا في هذا الزمن المجنون.
لم أجرؤ على ذلك، فالروح غالية.
وبعد دوامة تفكيرٍ نمت، وحلمت بأنّني في قصرٍ منيف، ودفء معتّق قديم.
وُسرِقَ حُلمي كالعادة.
صرخت بعالي الصوت على السارق: رد لي حلمي يا هذا.
وفي صحوتي لم أجد إلا المجانين، بعضهم في سبات، والآخر يتفوه بشطحات.
وجاء رئيس المشفى، وظنّ أنّ السارق من أعوانه ومنافسيه، فأحالني بسرعة إلى القاضي، وقبل أن يسألني القاضي عن السارق، همست له بصفاته، فقفز كالملدوغ، وأخذته شهقة: إنّه الوالي.
وقبل أن يحكم عليّ بالصلب لامَني رأسي: لماذا تحلم أيّها المجنون، ألا تعلم أنّك في بلادٍ عربية، وأنّك مواطنٌ من الدرجة الـثانية بعد الألف!
*قاص سوري