سفر في قاعة الانتظار

2025-02-01

محمد صالح المجيد*


كان الضّوء الخافت المنبعث من أضواء كهوف «المترو» في باريس يزيد من عدم قدرته على تبيّن خيط الليل من النهار في هذه المدينة المنيرة في ظلمتها.. صوت شقيقه وهو يدعوه إلى البقاء في باريس إلى حين توضّح الأمور يرنّ في أذنيه.
في مطار شارل ديغول، تواصل الحديث مع شقيقه عن إمكانيّة انتشار وسائل الإعلام العربية في الدول الغربية، وعن إمكانيّة الفوز بعقد سمين في إحدى الفضائيات، بعيدا عن روتين التدريس وضياع الوقت مع تلاميذ أكثر من نصفهم لا يعرفون ماذا يريدون ولماذا أُجبروا على الذهاب إلى المعاهد.. خلاصة الحوار سكت عن «لا» مقنّعة و»نعم» تُفهم من السياق دون أن يتلفّظ بها.. كالعادة يسقط المشروع في الماء ويتبيّن شقيقه أنّ كلامه لم يقنع وأنّ المحاولة غير ذات جدوى فيستسلم في يأس…
– هل تريد أن تشتري بعض الحلويات من المطار؟
رفع يده رفضا.. كان محاطا بكرم أخيه الذي ينفق عليه بلا حساب وكأنّه والده.. ومرّ مع المسافرين بعد تحية وداع سريعة.

***
عاش معذّبا بين رغبات لا يمكن تحقّقها ولذلك عرف التيه وأعجزه التردّد، لم يكن حاسما في حياته، عاش طوال عمره يوارب الباب فلا هو قادر على فتحه ولا هو ماض إلى حدّ غلقه نهائيّا سمته التردّد، هو الضعف الذي جعله يعيش اللحظة دون أن يفكّر ليحسم.. ترك الأيام تسبح به في تيّارات شتّى وكان مدفوعا إلى مائها.
-هل ارتحت؟ بماذا نفعتك الوساوس؟كانت تصرّ على انتزاع الكلام منه ولكنّه كان يهرب بكلماته ونظراته إلى النافذة، التي كانت تطلّ على الشارع الرئيسي، كان يتفادى الإجابة لأنّها تغرس في قلبه مسامير العجز..
الأفضل أن نكتفي بتبادل التهاني في الأعياد والمناسبات.. الأفضل لنا أن نبتعد عن بعضنا بعد أن فرّقتنا الدروب، لك عائلتك التي لا تريد أن تتخلي عنها بالتأكيد، ولي أسرتي التي لا يمكن أن أفرّط فيها في لحظة جنون،
صمت قليلا فأردفت:
– لا أريدك أن تنزعج مما قلته لك.. لنكن واقعيين «سيدي» (كان يحلو لها أن تناديه سيدي بلهجتها العاميّة الجميلة) لا أريد نبرة حزينة تنبعث من صوتك. أدرك وهو يضع سماعة الهاتف أنه يصارع الزمن المستحيل
***
هكذا تمضي بك الحياة بكل أمانيك المحطمة على صخور الضياع والتيه.. هكذا حملت الماضي وجعا غير قابل للوضع، وإن أثقل وعذّب…
جاءك صوتها من بعيد أو هكذا خيّل إليك..
« يا سيّد.. يا أيّها الماضي المتوثّب هل تعتقد أنّ مشاعري زرّ تضغط عليه فيستجيب؟
كانت ضحكتها الغريبة التي تفتح آفاقا وتغلقها تخفّف من كدمات صوتها وكنت تراها، لا يمكن لعينيك المغمضتين أن تخطئ رسمها وإن توارت وراء الزمن الكاسر، لم يشأ رسمكَ أن يضيف إلى جسدها بعض الترهّل وشحوم الزمن لذلك ما تنفك تسأل
هل ما زلت كما أنت رياضيّة الجسد خفيفة الحركة؟
ها أنت تتوغّل في تفاصيلها المغلقة وتمعن في إيذاء أفكارها المشوّشة أصلا.. أنت تصرّ على لقائها في غفلة من الزمن، فهل أنت قادر على مواجهة عينيها، ومحاربة كلّ محاكم التفتيش التي ستنصبها لك؟ هل تستطيع الآن أيّها الكهل الفارّ من حاضره إلى ماض متوهَّم، أن تواجه تفاصيلك العارية وأنت تخذلها، كم مواعيد مع الفرح أخلفتها أيّها المفتون بالتفاصيل، هل كنت تتلذّذ بتذكّر تلك التفاصيل الصغيرة التي كنت تردّدها على مسامعها، في لحظة أدركت أن كل هذه التفاصيل المنقوشة في وجدانه تحولت في ذهنها إلى رماد وهي غير مستعدة لاستعادتها، كي تزداد الأيام من حولها سوادا.. كانت تجاريك في التذكّر لكن ما ترويه لها حكاية قديمة عاشتها أخرى غير التي تضحك وتمزح معك، كان دخول الطفل إلى الغرفة مسرعا علامة على أنّ الواقع أقوى من تلك الحكايات التي تتناسل من الذكرى.
نعم كانت أنثاه التي يحب وكانت في نظره الأجمل والأحلى، اليوم في غيابها ضياع وحضورها ضياع أكبر في تفاصيل الجسد، كانت شاذّة في تزيّنها، حلوة في اللباس وعند العراء الجميل.. كانت تحنّ عليه وتعطف وتمنحه من العمر أزاهير الفرح والمتعة.. يا لضحكتها الطفوليّة وهي تداعبه وتمازحه وتغيظه، تمنّى لو أغمض عينيه على هذه اللحظة وانتفى الزمن. في كلّ مرّة يدخل الطفل إلى الغرفة مسرعا يسأل عن كلمة أو يطالب بحقّه في أن تهتمّ به أمه.
أيها المجرم تريد ابتلاع الحاضر من أجل ماض لم تستشر كل أطرافه كي تعيده.. وها أنت الآن تريدها بأنانيتك المستدامة أن تكون أبناء.. ألا تفهم أنّك ماض ثقيل الهضم؟ والآن لنفتح دفتر الحساب لماذا كل هذا الإصرار على اختراق الزمن؟ كنت منذ صغرك مغرما بالنفاذ إلى ما بعد السطح، وكانت أمّك تقول لك في عتاب مشوب بغضب،
أنت لا تحافظ على لعبك لأنّك لا تستحقها
المسكينة أمّك كانت تندهش وهي تراك تفتح اللعبة وتحوّلها إلى قطع لتعرف ما في داخلها.. هل تريد الآن أن تتعسّف على الماضي لتفتحه كما كنت تفعل صغيرا؟؟
***
كان الجوّ ممطرا.. وكان ينظر من النافذة يحمله خفقان قلبه إلى توهّم وقع حذائها وهي تصعد السلّم بسرعة.. تعوّد على أن يتأمّلها من النافذة وهي تمشي بخيلاء وزهو.. كان سعيدا بها وبخطواتها الواثقة.. شعرها الأصفر المنسدل على كتفيها يبعث النور من حولها وكانت بعض نظرات المارة تلسعه.. تعوّد على أن يكون أمام الباب لانتظارها.. ثوان معدودة تصعد فيها السلّم كأنّها شبح لكن كيف الفرار من عطرها وقد تضوّع في المكان، كانت في كلّ مرّة تسرع الخطو وتترك علامات حضورها لساعات، يتأمّل وجهها.. قبلة حارة يضغط بها على شفتين نبعين من حنان وصبر وقبل متواترة من عنقها تجد فيها لذة غريبة.. يصمت فمها وتتحرك يداها بحنان ساحر تنحشر في قامته وتحيط به وتأخذه إلى حيث ينسى عمره وينسى الوقت، وينسى إن كانت الأرض تدور أو توقّفت عن الدوران.. ويشهد أن لا امرأة أتقنت التلاعب به إلا هذه القادمة من حنين..
***
-يا سيّد … في أيّ رحلة أنت؟ وما هي شركة الطيران التي تسافر عبر خطوطها؟ ماذا تنتظر كل الطائرات أقلعت.. استيقظ فجأة.. نظر إلى ساعته.. الساعة الثامنة ليلا.. ماذا؟.. كان سيركب إلى تونس في رحلة الثامنة صباحا على متن الخطوط الجوية التونسية.. نظر من حوله.. قاعة الجلوس فارغة، هل نام؟ هل سافر إلى تونس صباحا وعاد، جرّ حقيبته وأسرع إلى باب الخروج..كالعادة سيركب سيّارة أجرة وسيطلب من أخيه أن ينتظره أسفل العمارة.. لا شيء يغري بالعودة إلى تونس.


*قاص تونسي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي