سردية «الصحوة الشيعيّة»: هل تبدّل الزمان؟

2024-10-12

غلاف الكتاب (مواقع التواصل)
وسام سعادة*

مطلع قرننا هذا، أصدر الباحث الإيراني – الأمريكي ولي نصر -على التوالي – كتابي “الصحوة الشيعية. شأن النزاعات ضمن الإسلام في تحديد آفاق المستقبل” (2006) و”صعود الرأسمالية الإسلامية. لماذا تعتبر الطبقة الوسطى المسلمة هي المفتاح لإلحاق الهزيمة بالتطرّف؟” (2009)
في الحالتين، تفوّقت براعة تكثيف الإشكال في المضمون على سرعة المعالجة وعشوائية العناصر المستخدمة للتوليف.
من المفيد في المقابل استعادة العنوانين. في الوقت الذي تنذر فيه الحرب التدميرية الإسرائيلية الموجهة ضد “حزب الله” سواء في لبنان أو في سوريا والتي تكشف عن هشاشة فظيعة في إمبراطورية الحرس الثوري الإيراني، بأن يتطور المنسوب “المباشر عن بعد” للمواجهة بين إسرائيل المسعورة وبين إيران المتخبطة إلى طور جديد من المآسي والكوارث في الشرق الأوسط. وفي كل مرة يطيب للبعض التفاؤل بهذه المآسي، هنا على أنها “ملاحم” صمود وعزة، وهناك على أنها “مخاض” للتصالح مع العصر وقيمه. وكلما كان الاقتصاد في صنفي الغلوّ والشطح هذين، “الملحميّ” و”المخاضيّ” أمضى، كلّما كانت القدرة على تحسين شروط النظر وبعض العمل متاحة أكثر.
أما العنوان الأوّل، فقيمته أنّ وليّ نصر اندفع للحديث عن “الصحوة الشيعية” لا في أعقاب الثورة الإيرانية أواخر السبعينيات، وإنما في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق وإسقاط نظام صدّام حسين، والدخول في تجربة مريرة تتساكن فيها صناديق الاقتراع مع الاحتراب الأهلي – المذهبي. ليس هناك إذاً محرّك واحد، إيراني، لهذه الصحوة. بل محرّكين، إيراني مرتبط بمسار الثورة الإسلامية ونظام ولاية الفقيه والحرس الثوري المنبثق عنها، وعراقي – عربي، مرتبط بالمرجعية النجفية والتجاذب بين الأبعد من إيران والأقرب لها. إنما، باختصار تعامل ولي نصر مع الصحوة الشيعية على أنها ستسبغ بلونها نطاقاً يشمل إيران والمشرق العربي وشبه الجزيرة، أي معظم الشرق الأوسط. وبالتالي، صار التحدي إذا كان من الممكن أن تتفلت هذه الصحوة من ربقة الثيوقراطية وأن تغدو أكثر تلاؤماً مع التحديث والديموقراطية أم لا.
بشكل أو بآخر، أقنع ولي نصر نفسه بأن الصحوة الشيعية هي المحدّد الرئيسي هنا. أي أن الشرق الأوسط سيزداد ميلاً للتشيّع في عصرنا، وأن الصراع الأساسي هو ضمن التشيّع نفسه، بين الخط الثيوقراطي فيه، وبين الخط الذي يمكن التفاؤل بموافقته للتحديث والديمقراطية الليبرالية.
السؤال الذي يطرحه نفسه اليوم، على محك التطورات في لبنان، لكن أيضاً وبالنظر لأحوال إمبراطورية الحرس الثوري الممتدة من مشهد حتى صنعاء، هو عن أفول هذه الصحوة الشيعية بفرعيها “الثيوقراطي” القائم بالفعل، و”الديموقراطي” المتخيّل. كثيراً ما تطرح المتغيرات اليوم من زاوية انسداد السبل بالإسلام الحركيّ ككل، لكن ماذا عن “الصحوة الشيعية”، تلك التي ربطها ولي نصر عملياً بإسقاط واشنطن لنظام صدام حسين؟ هل ينحصر أمدها بالربع الأول فقط من هذا القرن؟ ماذا بعده؟
في الأساس اقتبس ولي نصر صحوته المقدّرة هذه من مفهوم اعتمده بعض المؤرخين الغربيين. فقد انوجد لدى لفيف منهم للتمييز بين مرحلة صعود شيعيّ، ما بين القرنين الرابع والخامس للهجرة، العاشر والحادي عشر للميلاد، أسموها “القرن الشيعيّ”.
أدخلوا فيها تحكّم ملوك البويهية من الديالمة الشيعة الزيدية (وقد ازدادوا اقتراباً من الشيعة الإمامية لاحقاً)، ببلاد فارس والرافدين في تلك الحقبة، ووصايتهم على خلافة عباسية أخذت تميل أكثر فأكثر إلى إظهار التسنّن بعد أن فقدت المُلك الفعليّ.
وجمع هؤلاء المؤرّخون صعود نجم البويهية ووصايتها على خلافة بني العباس من دون تقويضها، مع نشوب الحركة القرمطية في البحرين والإحساء، وقيام الخلافة – الإمامة الإسماعيلية – الفاطمية في شمال أفريقيا، ومن ثم استيلائها على مصر والشام، وتأسيسها لمدينة القاهرة، أضف لطائفة من الممالك الشيعية المختلفة، أبرزها حكم الحمدانيين في حلب والموصل.
لم يمنع التنافر بين البويهيين والفاطميين، ولا اجتماع علماء أهل السنّة مع الشيعة الأمامية على إنكار صحة تنسّب خلفاء القاهرة إلى آل البيت هؤلاء المؤرّخين من خلع لقب “القرن الشيعيّ” على حقبة اعتبروا أن الإسلام السنّي كان فيها في موقع دفاعيّ، والعقائد والفرق الشيعية المختلفة في مرحلة التوثّب والمدّ من عراقي العجم والعرب إلى شبه الجزيرة والشام وحتى أرض الكنانة.
المفارقة أنّ ما أسماه هؤلاء المؤرّخون قرناً شيعيّاً، يتزامن عند الشيعة الإثني عشرية تحديداً مع عقيدتهم المتمثّلة ببدء الغيبة الكبرى، المستمرّة إلى يومنا هذا، للإمام محمد ابن الحسن المهدي، وامتناع النيابة العامة المباشرة عن الإمام أو السفارة أو الوكالة، بخلاف ما كان معمولاً فيه في زمن الغيبة الصغرى.

دور هذه الطبقة الوسطى في هذا النمط المتخيل من الرأسمالية الإسلامية لم يتضح
على العموم بأنه، بهذه الأرجحية، لا في الثورات العربية ولا في انتفاضات أحرار إيران

جرى التسويغ لمقولة “القرن الشيعي” انطلاقاً من ابتداع دراما تاريخية تتمثّل في إدراج كل ما أعقب دخول السلاجقة الترك السنّة إلى بغداد عام 1055م، و”تحرير” الخلافة العباسية فيها من تحّكم البويهيين بها، على أنّه عصر النهوض أو الأحياء أو الهجمة المرتدة العاتية السنية، يقودها باختلاف الأمصار، السلاجقة والغزنويون والزنكيّون والأيّوبيّون. فتتحصّل كل سلالة سلطانية تركية أو كردية منهم على اعتراف بها وإقرار لها من الخلافة القرشية العباسية ببغداد، دون أن يكون مطروحاً إعادة الهالة الإمبراطوريّة “المركزيّة” لهذه الخلافة.
يسمح اعتماد هذا التحقيب للمرحلة العباسية المتأخرة بين صعود شيعي يتلوه نهوض سنيّ مضاد برؤية الاستقطاب المذهبي في تاريخ الإسلام والمسلمين على أنه متقلّب من زمن إلى آخر، كما من شأن هذا التحقيب استبعاد الربط الاطلاقيّ، على طول الخط، بين الشيعة وبين حركات الاعتراض، وبين السنّة وبين الاقتدار بواسطة آلة الدولة. كذلك يسمح هذا التحقيب باستعراض المفارقة: الشيعة، حينما اقتدروا، في قرنهم المتخيّل هذا، انقسموا حول الخلافة. البويهيون رأوا أن الأفيد لهم التسلّط على خلافة بني العباس، بدلاً من إلغائها. والفاطميون طرحوا أنفسهم كخلافة مضادة. والإمامية دخلوا زمن الغيبة الكبرى وطعن زعماؤهم آنذاك بنسب الفاطميين، بل حالفوا الخليفة المتشدّد لأهل السنة القادر بالله عليهم. أمّا السلالات العسكريّة السلطانية التركية والكردية فقد وجدت نفسها تطوي صفحة الاقتدار الشيعي هذا، وتبدي الغيرة على مركز الخلافة، دون أن تكون في وارد إعطاء الخليفة حيّزاً أكبر من ذاك الذي ناله في ظل حكم ملوك البويهية لبغداد.
أما مشكلات هكذا تحقيب مذهبي للتاريخ فليست قليلة. ومنها افتراض أن التسنن والتشيع يكون الواحد منهما إما في موقع دفاعي أو في موقع هجومي، على طول الخط، وعلى صعيد مجمل البلدان الإسلامية مأخوذة ككتلة. يبقى أن ولي نصر استعجل استعارة هكذا تحقيب لإسقاطه على قرننا هذا. وفي الأساس التحقيب نفسه لم يبادر اليه المؤرخون الغربيون إلا بالتزامن مع انتعاشة الاستقطاب المذهبي السني الشيعي مجددا نهاية القرن الماضي. أي أننا هنا في تبادل اسقاطات. فهل يمكن القول الآن أن الصحوة الشيعية التي قال بها ولي نصر قد دخلت لحظة أفولها الآن؟ أم أن في الأمر استعجالا هنا أيضاً؟ اللافت في الحالتين هو أنه لا يمكن القول إن الصحوة الشيعية تنقض هذه المرة بصحوة سنية مضادة. إنما بالأحرى، بإرهاق حضاري اسلامي عام. ربما بتلف في الديناميات الصحوية نفسها. أما مقولة “الرأسمالية الإسلامية”، وهي من أهم ما كتب ولي نصر على مستوى العنوان، إنما بمضمون لا يغطيه، فكان بعض من أوجهها في كتابه تنامي خطوط التبادل التجاري بين البلدان الإسلامية بصرف النظر عن المشكلات السياسية فيما بينها، وبشكل عدّه نصر نقيضاً لأنماط التطرف العابرة للحدود. لكن هنا أيضاً ربما جاز التفكير بأن من جابه هذا “التطرف” وأوصله الى ألف طريق مسدودة لم يكن صعود الطبقة الوسطى المحبة للتحديث، مثلما أن دور هذه الطبقة الوسطى في هذا النمط المتخيل من الرأسمالية الإسلامية لم يتضح على العموم بأنه، بهذه الأرجحية، لا في الثورات العربية ولا في انتفاضات أحرار إيران.


*كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي