جمال البدري*
«إنّ أسوء شيء دفاعك عن الحقيقة بمشاعرعاطفيّة غاضبة، فيما خصمك يستولـي على حقوقك تلك؛ ببرودة أعصاب صامتة». قالها سالم لصاحبه وهو يحاوره بهدوء في المقهى، قبل أنْ يعــود إلى منزله ليلا.. ثمّ دلف إلى فراشه شبه الوثير البارد، بعدمـا انفصل عن زوجته دلال. لقد استيقظ من فزع حلم لأفاعٍ عديدة تحيط برأسه وحول رؤوسها قبعـات: ســـوداء وبيضاء وحمراء وصفراء وخضراء وزرقاء. لم يستطع الهـــروب من تلك الأفاعـي إلا باليقظة من كابوس ذلك المنام المفزع..وأحــسّ بضبابيّة ذهنيّة مرتبكة في رأسه وارتعاشة ببدنه الضعيــف. .وردد بخاطره الكئيب: «ما دلالة تلك الأفاعي ذات الألوان المتعددة؟».
سأل نفسه صامتا من دون جواب مقنع وقررالبحث عن الجواب المفقود… خرج في ضحى اليوم التالي إلى ذلك المقهى فلم يجد أحـدا من أصحابه بالأمس، واكتفى باحتساء الشاي على عجل، وأعقبه بكأس ماء، ثمّ طفق التجوال في الشارع الرئيسيّ في المدينة. كان أحيانا يقرأ في لوحـات المحلات التجاريّة التي يقع عليها نظره، وهو يسيرمن دون هـدف محدد سلفا. وفجأة وجد نفسه في الضاحية.. حيث توجد بعض تلال غيـر منتظمة التوزيع في تلك البقعة من تخوم المدينة. واصل السير… فلم يترك وراءه شيئا يسأل عنه، وهوالمطلــق والعاطـل عن العمل.. وتذكّر أنه زار تلك التلال حينما كان في الدراسة الثانويّة مع بعض الأصدقاء من زملاء المدرسة، حيث توجد ساحة ترابيّة، صالحة للعبة كــرة القدم. وعادت به الذاكرة إلى أيام الدراسة التي لم يجنِ منها ســــوى أنْ يكون عاطلا بشهادة من المرحلة الثانويّة، ثمّ حصوله على شهادة الدبلـوم من معهد السيّاحة، حيث وشلت وضحلت تلك السيّــاحة، إذْ لا توجد لهـــا بنى تحتيّة وفوقيّة للسيّاح. قعد عند أحد تلك التلال، ورأسه يدوربالاتجاهات المختلفة، كأنّه يبحث عن موعد مجهول الظلّ… يحـسّ به ولا يــراه بل يراه ولا يراه رأي العين. وقرر سالم مواصلة السير بين التـلال التي كان عــددها يتزايد، كلما ابتعد عن ضاحية المدينة.. وهو يتلفت كمنْ يراقب خيال ظلّه المرافق له تحت الشّمس. لم يضع خطة لمشواره، ولم يحدد الاتجــاه والبوصلة، لكنه قدّر أنه في الاتجاه الصحيح بالفراسة، والإحساس المركوز في اللاشعور لديه. كان سالم يعلم بخاطره ما يريد، وليس بعقلـــه المليء بالتقاطعات وبعقد من المعلومات والتصورات الموروثة، وببقايا أحلام الأفاعــي الملوّنة القبعات. وأدرك أنّ خريطة الخاطر الآن الأكثر صوابا من خريطة العقــل المزدحم… ففي الكثيرمن الأحيان يكون الخاطر البوصلــة، كما يقول بعض المتذوقة. التفت مستديرا نحو المدينة التي تتضاءل عن ناظريه، كأنّها سفينة شراعيّة تدلـف الهوينا في يمّ من التضاريس والنّاس؛ لا من بحر وأمــواج الماء..
كان يتذكّر بعضا من تاريخه الصغير والكبير. وكيف نشأ وحيدا مدللا، قبل وفاة والديه منذ أكثر من سنتين.. فبقي وحيدا ليس له أخ أو أخت ولا زوجة. لم يرث من والديه إلا منزلا بمستوى الطبقة الوسطى، فيه من متاع الأثـاث ما يكفيه أعزب، وما لا يكفيه لو تزوّج ثانية وأقام أســرة جديدة له، وبعض أموال مما جمعه والده في حياته تكفيه للعيش من دون عمل لستة أشهر فقط. إلا أنّ سالما لم يحفل بكلّ تلك الذكريّات والأحلام. هو يريد الاستمرار سيرا، لأنه يؤمن بأنّ الحركة بركة، كما كانت تقولها له أمّه قبيل وفاتهـا. والأمّهات لا يكذبنّ على أبنائهنّ بالنصيحة، لكنهنّ يكذبنّ على أزواجهنّ وجاراتهنّ.. في كثيرمن الأحيان والمواقف المحرجة وغير المحرجة، كعادة لهنّ وغيرة.
على مسافة خطوات رأى في أديم الأرض فقأ كأنّه شقّ أديم باكر.. وتذكر أنه في شهر آذار/مارس، حيث موسم الفــقأ في بريّة ما بعد الضواحي، من بعد موسم أمطار ورعد وبرق، لكنه ماذا يفعل بالفقأ الأبيض والأسود، المحاط بعمامـة من تراب وطين، كالعمامة الخضراء للملا درويـش، القابـع في محرابه.. أخذته ساقاه إلى حيث اللامكان وسط المكان، حتى انقطعت عن ناظريه كلّ حركة من سابلة النّاس القريبة من ضواحي المدينة، في تلك البريّـة الهادئة. لا يزال سالــم مؤمنا بأنه في الاتجاه الصحيح وأنّ بوصلته تتجه به نحو القبلــة، كما يتجّه المصلّى نحو الكعبة فلا يخطئ الاتجاه نحو الجنوب المقدّس للمؤمنين صباح مساء. نظرإلى الشّمس، لا تزال مشرقة في عصر ذلك اليوم الهـادئ. وقرر أنْ لا يعود إلى منزله الذي لا تسكنه الآن، إلا الريح والفراغ والقطط. أما الأفاعي الملوّنة التي قد رأها في حلم منامه ذاك، فلا يعــرف لجحورها الستة عنوانا ساعتئذ، فالأفاعي تطمئن لليل المظلم، لتجد طعامها المنتظر.
مالت الشّمس للمغيب.. فاتجّه سالم نحو ظــلّ قصرالجوســـق الخاقانيّ الذي بناه الخليفة المعتصم العباسيّ قرب مدينة سامراء، يوم كانت عاصمـة للدولة العباسيّة في القرن الثالث الهجريّ، ويسمّى بالقصرالمعشوق، ولا تزال بقاياه شبه عامرة وهي تطلّ على نهر دجلة من الأمام، وعلى بركة مسمّـاة بالبركة الحسناء من الخلف، والتي قال فيها الشّــاعرالبحتريّ قصيدة منها : يامنْ رأى البركة الحسناء رؤيتها.. والآنسات قد لاحت مغانيها. وقبالة قصر الجوسق المعشوق، عبر نهر دجلة يوجد ما يعرف بقصر العاشـق، ويقال إنّ أميرا عباسيا، عشق أميرة عباسيّة تقيم في قصر الجوسق، فكـان ينظر إليها عبرالنهر، والمسافة بينهما لا تقل عن سبعــة كيلومترات.. فسُمّي ذلك المشهد البانوراميّ للغزل والحبّ: قصر العاشق والمعشوق لا للمطلقين. لقد أصرّعلى البقاء في ذيّاك المكان شبه المهجور؛ كأنّه مخبول فقد رباط أعصابه، فأصبح خارج الزمان والمكان، أو ربما توهّم أنه في قصرالخليفة! رغم أنّ محيط المكان مليء بالخرائب وتلال قيل إنها تخفي تحتها بعضا من مجاهيل عجائب الآثار الثمينة والكنوز الدفينة. وفوقها طرائــد شتى من الطير. فهل حلم منام يقلب حياة شاب بلغ الثلاثين إلى هذه الطريقة البوهيميّة؟ ربما! لقد قرر سالـــم أنْ يمضي أياما في قصر الجوسق العباسيّ، فالمهم لديه المـاء ومكان للمبيت أميــن من دواب الليـل المظلم، حيث باحات القصرالمرتفعة. فهو قد اعتاد النوم منفردا بعد طلاقه من دلال، ذات السابعة والعشرين سنة. نزل إلى شريعة النهر ورشف بكفّه ما يروي ظمأه، وهو يلقي ببصره صوب قصب مائيّ ممتدّ نحو الأفق، والشّمس التي نزلت تجرّ إلى الغـروب ذيولا. كان القمر في تربيعه الأوّل يشّع بنوره الحليم الفضاء، والمكان يسوده هدوء البراريّ، إلا من صرير حشرات وهمسات بغام لبعض الطرائد في الجوار. وانطلق خاطر الفتى كأنّه شريط مضغوط في أسطوانة محفوظة في أرشيف. وهجمت على خاطره أسماء شخصيّات من تاريخ المكان وغير المكان.. أراد أنْ يسترجعها كأحلام اليقظة، للتعويض عن أحلام المنام بالتبادل الزمـانيّ. وما دري أنّ أحلام الاستراجع تلك، لديه، هي عينها أحلام المستقبل، لمنْ كان يسترجعهم. فالماضي عندك المستقبل عندهم، حسب نقطـة الانطلاق.. وحسب الإحساس التاريخيّ لمنْ يروم الذكريّات والتمنيّات معا. إنها معادلة؛ ما بعد الطلاق بين العاشق والمعشوق؛ في كلّ زمان ومكان لهذا الإنسان… وأدرك سالــم أنّ المرأة هي مقياس الزمن المنقوص من عمـر الرجل؛ وأنّ الطلاق أسفل سافلين. ولن يجد كنزا في قصرالعاشقين؛ بعدما ضيّع دلالا.
*كاتب وشاعر من العراق