
بدأت إسرائيل هجوما جويّا على لبنان الإثنين 23-9-2024، هو الأكبر منذ 8 تشرين أول/ أكتوبر الماضي. أدت الثلاثمئة غارة إلى سقوط مئات الشهداء والجرحى، ودفعت عشرات الآلاف من سكان جنوب البلاد إلى النزوح نحو الشمال، تاركين مناطقهم التي تعرّضت لتدمير كبير.
يجيء الهجوم بعد ضربات كبيرة تلقّاها «حزب الله» منذ السابع عشر من الشهر الجاري حين انفجرت آلاف من أجهزة النداء الآلي (البيجر) وتبعتها موجة أخرى في اليوم التالي استهدفت أجهزة الاتصال اللاسلكي، وبعدها بيومين استُهدف مبنى سكني في الضاحية الجنوبية لبيروت، المعقل الرئيسي للحزب مما أسفر عن اغتيال إبراهيم عقيل، أحد الأعضاء المؤسسين للحزب ورئيس عملياته مع قادة «قوة الرضوان» التي تمثل نخبة الحزب العسكرية.
رد الحزب بتوسيع المدى الجغرافيّ لقصف القواعد العسكرية والمطارات والمستوطنات الإسرائيلية بصواريخه المتوسطة المدى («فادي1 و2») فتساقط بعضها في مناطق حيفا والناصرة وصفد والكرمل. استهدف الرد العسكري للحزب إعادة توازن الرعب الذي أخلّت به ضربات إسرائيل، ووضع الدولة العبرية أمام خيارات صعبة.
استخدمت إسرائيل هذا الردّ، كما كان متوقعا، كمبرر للانتقال من الاغتيالات الفردية لقادة وعناصر الحزب إلى استهداف المدنيين اللبنانيين بدعوى أن «كل منزل لبناني تم قصفه يحوي أسلحة لحزب الله» على حسب تعبير دانيال هاغاري، الناطق باسم جيش الاحتلال.
هدف بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة إسرائيل، من الغارات الواسعة الأخيرة، حسب قوله هو «تغيير موازين القوى» وهو أمر يتضمّن، كما أشارت تقارير بثتها وسائل إعلام (مثل «إيكونوميست» البريطانية وموقع «واللا» الإسرائيلي) على أن قواته البرية ستجتاح الحدود اللبنانية لتشكيل «حزام عازل» داخلها يبعد قوات «حزب الله» إلى شمال نهر الليطاني.
يذكّر السيناريو الآنف، طبعا، بـ»عملية الليطاني» التي توغّل فيها الجيش الإسرائيلي في لبنان عام 1978 والتي تأسست بعدها دويلة «لبنان الحر» العميلة لإسرائيل، وكذلك باجتياح إسرائيل الدموي الكبير للبنان عام 1982، والذي انتهى، كما هو معلوم باجتياح العاصمة بيروت، وبخروج فصائل المقاومة الفلسطينية، ثم بأحداث دراميّة هائلة حصل فيها اغتيال بشير الجميّل، وبمجزرتي سكان مخيمي صبرا وشاتيلا الفلسطينيين (إضافة إلى سوريين ولبنانيين) وانطلاق حركة المقاومة الوطنية اللبنانية التي بدأتها بعض أحزاب «الحركة الوطنية» التي كانت متحالفة مع المقاومة الفلسطينية حتى خروجها.
يتمفصل تاريخ «حزب الله» بشكل عضويّ مع حدث اجتياح 1982، فمع الفراغ الاستراتيجي الكبير الذي شكّله انسحاب قوات المقاومة الفلسطينية، لعب الحزب دورا خطيرا في الصراع مع أمريكا التي رعت عملية انسحاب الفلسطينيين، وكان العقيل، الذي اغتالته إسرائيل مؤخرا، أحد مؤسسي الحزب وبين المسؤولين عن تفجير السفارة الأمريكية الذي تسبب بمقتل 63 شخصا (نيسان/ ابريل 1983) ومقر مشاة البحرية الأمريكية الذي خلّف 241 قتيلا (تشرين اول/ أكتوبر 1983) وانطلاق حركة المقاومة الوطنية والإسلامية التي فرضت الانسحاب على قوات الاحتلال عام 2000.
يترك نتنياهو وراءه جبهة غزة المشتعلة من دون أفق لهزيمة «حماس» ويتّجه مع شركائه، الأشبه بالضباع المنتشية بمشاهد الإبادة والدماء والمجازر، نحو لبنان، معتدّين بضرباتهم الأمنية السابقة، وبقوّتهم العسكرية الضاربة، وباستثناء الحديث عن «تغيير موازين القوى» فإن لا خطة سياسية معلومة يهدف إليها هذا الهجوم، ولا قوّات كافية (كما تؤكد المصادر الإسرائيلية) لتحقيقه، ومن دون اتعاظ بما حصل بعد الاجتياحات العديدة للبنان.
يقامر نتنياهو، الهارب من المحاكمة في إسرائيل، والمطلوب قريبا، على الأغلب، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بكل أوراقه، آملا في تحقيق هدف مستحيل، آخذا المنطقة رهينة لأوهامه القومية العنصرية، ومتجها بإسرائيل إلى كارثة جديدة.