
سلسلة منشورات في وسائل الإعلام الأجنبية، المتحررة من قيود الرقابة العسكرية في إسرائيل، تضيف تفصيلاً مهماً لصورة المعلومات بشأن هجوم أجهزة البيجر وأجهزة الاتصال على حزب الله أول أمس والذي استمر أمس في هجوم أصغر على أجهزة الاتصال التي هي بحوزة المنظمة اللبنانية. حسب التقارير، فإن حزب الله كان على وشك اكتشاف الخطة العملياتية التي تمت بلورتها في إسرائيل لسنوات، والتي تم في إطارها تفخيخ آلاف أجهزة البيجر مسبقاً، ووزعها حزب الله على أعضائه. قبل لحظة من اكتشاف العملية، قررت إسرائيل تفعيلها.
كانت النتيجة ضربة عملية وقوية في معنويات حزب الله. فآلاف من أعضائه أصيبوا، وعشرة أو أكثر قتلوا، وتبين أن منظوماته القتالية شفافة وقابلة للإصابة. أمس، بعد أن دعا حزب الله أعضاءه للتخلص من أجهزة البيجر، بدأت انفجارات في أجهزة اتصالات من نوع آخر، وتم الإبلاغ عن 20 قتيلاً و450 مصاباً في أرجاء لبنان، من بينهم من أصيبوا في جنازة القتلى من أول أمس. بيوت وسيارات للأعضاء اشتعلت نتيجة الانفجارات التي كانت في أجهزة أكبر هذه المرة، لذلك ربما كانت تحتوي على كمية أكبر من المواد المتفجرة.
يبدو أن حزب الله لم يتعلم الدروس المطلوبة من الهجمات الأولى، ويدفع أعضاؤه الآن ثمناً إضافياً. وللمفارقة، رئيس حزب الله، حسن نصر الله، دعا في شباط الماضي أعضاءه التخلص من الهواتف المحمولة بذريعة أنها كشفت الحزب للاستخبارات الإسرائيلية. حزب الله تزود، كبديل، بأجهزة البيجر القديمة على فرض أنها أكثر حصانة أمام الإصابة، لكنه هكذا عرض نفسه لضرر أكبر بما لا يقاس. والآن، تمتد الأضرار أيضاً بواسطة أجهزة الاتصال.
يمكن الافتراض أن الحزب سيبدأ التعامل الآن بحذر حتى مع الأجهزة الكهربائية المنزلية العادية. وكما أشار محلل “واشنطن بوست”، ديفيد إيغناشيوس، فإن إسرائيل حولت أجهزة عادية للعدو للمرة الأولى إلى أجهزة هجومية ضده. المعاني كبيرة – استغلال أجهزة منزلية مرتبطة بالإنترنت في هجمات قاتلة في المستقبل. ومعرفة تنفيذ هذه الهجمات لن تبقى بالضرورة في يد دول ديمقراطية غربية.
حرف الانتباه السياسي
التقارير التي تناولت الاشتباهات التي ثارت في حزب الله قد تحرف انتباه المستوى السياسي، الذي انتقل أول أمس خلال دقائق من الانشغال الكثيف بعاصفة الاستبدال التي لم تطبق بعد في وزارة الدفاع بين غالنت وجدعون ساعر إلى سلسلة نقاشات محمومة حول الوضع في الشمال.
إذا كان ذخر استخباري وعملياتي متطور كهذا قد أوشك على الانكشاف استعداداً لإمكانية اندلاع حرب مع حزب الله، فمكن معرفة السبب الذي ألح على متخذي القرارات المصادقة على تشغيلها قبل فقدان أهميتها الاستراتيجية الكامنة فيها (على فرض أن الحديث يدور وبحق عن هجوم لإسرائيل).
العملية التي نسبت لإسرائيل تثير ردوداً انفعالية من خبراء في الجيش والمخابرات في أرجاء العالم. هذا أمر مفهوم. فهنا يتم تجسيد القدرة على اختراق هدف سري للعدو، وتركيز الإصابة على نشطاء عمليين مع مس ضئيل بالمدنيين (رغم آلاف المصابين)، والعمل تزامناً ضد أهداف كثيرة وكشف العلاقة العملية السرية بين السفير الإيراني في بيروت الذي أصيب بسبب انفجار أحد الأجهزة وبين شبكات الإرهاب المتشعبة لحزب الله. حتى الآن، في ظل غياب بيان تحمل فيه مسؤولية رسمية عن العملية في لبنان (باستثناء التغريدة غير المسؤولة من قبل حاشية رئيس الحكومة) والصعوبة في إدارة حوار كامل في هذا الشأن، فثمة أسئلة أخرى تثور هنا.
الضربة المؤلمة والمعقدة يجب أن تكون بمثابة ورقة يجب الحفاظ عليها كضربة لافتتاح لعملية عسكرية واسعة. الآن هناك من يقارنون هذه العملية، رغم الفرق الواسع من حيث حجمها، مع عملية “موكيد” لسلاح الجو، التي تم فيها تدمير مئات الطائرات المصرية والسورية على الأرض في بداية حرب الأيام الستة. في الحادثة الحالية، ما كان بعد الهجوم على أجهزة البيجر كان على شكل تفجير هذه الأجهزة. حتى أمس، لم يُنشر عن هجمات جوية كثيفة أو دخول بري إسرائيلي إلى لبنان. نظرياً على الأقل، هناك خطر في أن يبدأ حزب الله العملية القادمة، ويؤدي إلى حرب شاملة رداً على الإهانة التي تعرض لها في بيروت.
في جلسة الكابنيت مساء الإثنين، تم تغيير أهداف الحرب، حيث أضيف إليها إعادة سكان الشمال إلى بيوتهم (رغم أن نتنياهو يطرح هذا الأمر في خطاباته كهدف منذ بضعة أسابيع). يبدو أنه ستمر بضعة أيام حتى نفهم إذا كان لدينا هنا عملية استراتيجية يعدها المستوى السياسي استمراراً للضربة التي تلقاها حزب الله. هل سيكون التوجه نحو الحرب أم أن إسرائيل تحصي النقاط الإيجابية التي راكمتها، والاكتفاء بتحقيق عدد كاف من النقاط من أجل هزيمة حزب الله؟
على فرض أنه هجوم إسرائيلي، ثمة تفسيرات محتملة لنوايا نتنياهو، الذي يبدو أنه يبلور السياسة في الشمال: التفسير الأول، أن رئيس الحكومة يأمل بأن الضغط المتزايد وجنون العظمة المتزايد خوفاً من المزيد من الهجمات سيدفع حزب الله إلى نقطة الانهيار في النهاية. وسيدرك رئيس حزب الله، حسن نصر الله، بأن الثمن الذي يدفعه مقابل إسهامه في صراع حماس في غزة، وإطلاق الصواريخ والقذائف والمسيرات منذ بداية الحرب، باهظ الثمن ولا يتحمله، وسيعمل على التوصل إلى ترتيب لوقف إطلاق النار في الشمال، وانسحاب قوة “الرضوان” إلى ما وراء نهر الليطاني بطريقة تسمح بعودة بعض السكان الإسرائيليين إلى المستوطنات على الحدود.
التفسير الثاني أن إسرائيل تحاول جر حزب الله إلى حرب. عندما سينجر حسن نصر الله إلى الرد، فستستغل إسرائيل الشرعية الدولية بعد المس بمواطنيها وتتذرع لشن حرب شاملة في لبنان في وقت يفضل حزب الله وإيران استمرار المناوشات الحالية دون دفع الثمن الذي تشمله المواجهة العسكرية بدون قيود، وهذا ما يخشاه لبنان. مصادر مقربة من حزب الله قالت أمس إن الحزب يلاحظ نية إسرائيل، جره إلى الداخل، لكنها ليست سوى تقديرات. رئيس الحكومة منع أول أمس الوزراء من إجراء المقابلات، وتحافظ القيادة الأمنية على الصمت.
اليوم بعد الظهر ربما سيتلاشى عدد من علامات الاستفهام، حيث يتوقع أن يلقي حسن نصر الله خطاباً في بيروت. في هذه الأثناء، نشر الصحافي المقرب من حسن نصر الله، إبراهيم الأمين، محرر صحيفة “الأخبار” اللبنانية أمس مقالاً متعرجاً حاول فيه طرح موقف حزب الله. ووصف هجوم أول أمس بعملية أمنية الأكبر من بداية المواجهة. وقال “نحن أمام وضع جديد”. و”حزب الله سيبحث عن رد مناسب على هذه الضربة”. قال الأمين.
أقوال حسن نصر الله قد توضح عما يدور الحديث. يجب الأخذ في الحسبان بأن هجمات أجهزة البيجر وأجهزة الاتصال تضعضع ليس فقط الشعور بالأمن الشخصي لقيادة المنظمة، بل والثقة بقدرة رجاله. سلسلة القيادة والسيطرة في الحزب في حالة الطوارئ تضررت بشكل كبير. وحسن نصر الله يتساءل إذا تم اختراق منظومات حساسة أخرى للحزب وما الذي سيحدث إذا قرر رجاله استخدام السلاح الذي يحتفظ به إلى حين الحصول على الأمر. في المقابل، يبدو أن أي هجوم، بالتأكيد حادثة بيروت، يقرب حزب الله إلى شفا الحرب الشاملة. هذه الحرب ليست عملية استخبارية يمكن السيطرة على كل نتائجها، بل قصة مختلفة كلياً، وسيدفع الطرفان فيها ثمناً لم يتعودا عليه.
منطقة الراحة
في الوقت الذي تجري فيه كل هذه الأمور، ووسائل الإعلام في إسرائيل والعالم مهووسة من قصص جيمس بوند في الضاحية، يواصل الجيش الإسرائيلي القتال في قطاع غزة ويموت الجنود. صباح أمس، سمح بنشر أنه في وقت قريب من الهجوم في بيروت، قتل ضابط وجنديان وممرضة من لواء “جفعاتي” في حادث في حي تل السلطان في رفح. حتى الآن، ليس واضحاً إذا أصيبوا بتفجير بيت أو بصاروخ مضاد للدروع، وأصيب أيضاً خمسة جنود، بينهم ثلاثة في حالة حرجة. في حادث آخر أصيب ضابط إصابة بالغة. وجميعهم “جفعاتي”.
هذا تذكير بثمن القتال في قطاع سبق وأعلن فيه الجيش الإسرائيلي مرات كثيرة مؤخراً عن هزيمة اللواء القطري لحماس. وفي الوقت نفسه، تم نسيان المخطوفين، وخفت الاحتجاج من أجل إطلاق سراحهم، حيث في الخلفية صور مدوية من لبنان. نتنياهو عاد إلى منطقة راحته: الصفقة عالقة، وضغط الجمهور لوقف الحرب وإعادة المخطوفين انخفض.
عاموس هرئيل
هآرتس 19/9/2024