البندقية - نسرين سيد أحمد - في فيلم «أرض المعركة» للمخرج الإيطالي جياني إيميليو، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية السينمائي (28 أغسطس/آب إلى 7 سبتمبر/أيلول) نجد أنفسنا أمام سؤال وطني وأخلاقي في المقام الأول: هل الفرار من القتال ومن أهوال القتال خيانة عظمى حقا؟ هل هو دليل على الجبن، أم رغبة في إنقاذ النفس من حرب لم يختر الجندي أن يشارك فيها، ولم يكن سببا في اشتعالها؟
العام هو 1918، في أواخر الحرب العالمية الأولى، والمكان هو مستشفى عسكري إيطالي، حيث يعمل طبيبان صديقان، تختلف رؤيتهما للحرب اختلافا تاما. الأول هو جوليو (غابريال مونتيسي) الذي يرى مساعدة بلاده على الانتصار في الحرب، مهما كانت التكلفة البشرية، واجبا قوميا، ولذلك يبذل قصارى جهده في أن يعيد الجرحى إلى الجبهة، حتى قبل أن يتماثلوا للشفاء تماما، طالما تسمح حالتهم بالقتال. أما الطبيب الثاني فهو ستيفانو (أليساندرو بورجي) الذي يرى أن الجنود، الذين لا يزال الكثير منهم مجرد صبية، يزج بهم في آتون الحرب دون رغبة منهم، ويتفهم رغبة بعضهم في الفرار والعودة لديارهم. تجمع المستشفى الاثنين مع الممرضة آنا (فدريكا روسيليني) التي تجمعها صداقة طويلة مع الاثنين.
في هذا المستشفى نرى شبابا يعانون من الصدمة من أهوال الحرب، والكثير من المصابين الذين دمرت الشظايا والقذائف أجسادهم. لكننا نرى أيضا شبابا يتعمدون أن يعرضوا أنفسهم لإصابات تؤجل عودتهم للجبهة، أو تعفيهم من القتال كلية. ونرى أيضا من يعمل في الخفاء، مستعينا بخبرته الطبية، في مساعدة هؤلاء الجنود على أن يصابوا بأعطاب تؤدي لإعفائهم من القتال وعودتهم إلى ديارهم.
لا يصور إيميليو أرض المعركة التي تعنون الفيلم قط، ولا نرى في الفيلم مشاهد القتال بصورة مباشرة، لكن الحرب حاضرة واضحة جلية في كل لحظات الفيلم في أجساد الجنود المصابين في المستشفى، الذين مزقت أجسادهم الحرب، وفي نظرات الخوف والصدمة، وفي الذعر من العودة إلى القتال. المعركة حاضرة في صراخ الجرحى، وفي دمائهم المراقة وفي الأعداد الجديدة من المصابين التي تتوافد على المشفى في كل يوم. لا يقدم المخرج إنجازا بصريا كبيرا ولا فيلما يشار له بالبنان، لكنه يقدم فيلما يدين الحروب وأهوالها، لأنها تجعل الناس حطبا لها، ولأنها تدفع الكثير من الجنود إلى تشويه أجسادهم أو إصابة أنفسهم بعاهات حتى لا يزج بهم ثانية في الحرب، بعد أن أبعدتهم الإصابة عنها. ويصور الفيلم القسوة الشديدة للآلة العسكرية، التي لا يهمها من يسقط جريحا أو صريعا، بل تستخدم المزيد من الشباب حطبا لها. وبينما ما زال العالم يترنح من وطأة الحرب العالمية الأولى، التي لم تنته بعد، تواجه البلدان حربا جديدة وعدوا جديدا يحصد الأرواح حصدا، وهذا العدو هو وباء الإنفلونزا الإسبانية، الذي يتفشى في المدنيين والجنود على حد سواء. وهنا تتحول الحرب في الفيلم إلى حربين أسلحتهما مختلفة تماما. أولاهما هي الحرب العالمية بمدافعها وضباطها وقادتها. وثانيتهما هي الحرب ضد الوباء، وسلاحها العلم، ومحاولات الأطباء للحد من تفشي الوباء، والمختبرات في محاولة التوصل لعلاج.
يبدو لنا الفيلم مشتتا أحيانا بين الحربين، حرب السلاح والجنود وحرب الأطباء في محاولة مواجهة الوباء. ربما يود المخرج أن يوضح لنا أنه توجد حروب أخرى أكثر أهمية، وربما أكثر شرفا، يتعين على العالم أن يخوضها، مثل التصدي للأمراض والأوبئة التي تفتك بالكثيرين، ومن التصدي للفقر، الذي يجعل الناس فريسة أسهل للأوبئة. لكن هذه الرسالة تأتي على حساب الفيلم، الذي يبدو أحيانا مشتتا منقسما. وربما كان من الأفضل أن يركز المخرج على تحدٍ واحد ومعركة واحدة. لا يقدم الفيلم نهاية واضحة لأي من الحربين ويشتتنا بين عالمين.
«أرض المعركة» فيلم واعد، يحمل في شقه الأول رؤية واضحة وصوتا قويا في مواجهة الحروب، ثم تأتى الانفلونزا الإسبانية فيتبدد الصوت وتتفكك الرؤية. يبدو لنا في بادئ الفيلم أن جوليو وستيفانو قد حزما أمرهما وقررا توجهاتهما الأيديولوجية والأخلاقية ومفهومهما للواجب بصورة واضحة في النصف الأول من الفيلم، لتأتي الانفلونزا الإسبانية لتبدد الرؤية وتقضي على اتزان الفيلم.