باسم أحمد القاسم
أريدُ أن أعرفَ
متى تكونُ المرأة صورةً
ويكون الرجلُ صوتاً!
متى يتماهى الصوتُ في نسيجِ
الصورة، والصورة في ذبذبات الصوت.
تتعتّق الصور الحبيسةُ في الوجدان،
وأتساءل:
أيّةُ عدسةٍ من عدساتِ الروح، يمكن لها
أن تصوّر المرأة الراويةَ أو المرويّة
أو القتيلة؟
الأسطر السالفة، توطئة نصافح بها طموحاً قرائيّاً يتناول أحد أبعاد مفهوم « العبور الأجناسيّ» وقد يبدو مثيراً للشغف وهو يستفيد مما يستتر وراء كاريزما الأدبيّة للسينمائيّ السوري محمّد ملص، وليس أجمل ما يحرض على هذا الطموح من كتابه المعنون « قيس الزبيدي، الحياة قصاصاتٌ على ادار» الصادر عن دار هاشيت أنطوان 2019، وهو جديرٌ بهذه التداوليّة لما تفرضه خصوصيّة المحتوى التأليفي للكتاب، عبر توجّهٍ أفصح عنه الكاتب في مقدّمته قائلاً (سمحت لنفسي أن تتخذ الكتابة عن قيس، صيغة أشبه بالروائيّة، كما أعتقد أنّ هذا الخيار يمنح الكتابة بعداً وجدانيّا لا يقلّ في أهميّته عن وثائقيّة ما سأرويه ويعطي للنص عمقاً يغني هذا التصدّي الخاص).
بوضوح تلك القصديّة يجدُ القارئ نفسهُ في مسارٍ لا مناص من الولوج فيه فيتلمّس الخفيَّ بين جنبات الوعي اللغوي الباطن عند محمّد ملص، وعيٌ لا يشكّل مطلباً توجبه الروائية وحسب، بقدر ما هو ضرورة تأليفيّة في تعبيريّة السرد أيضاً، فهل كان ميخائيل باختين في كتابه «الخطاب الروائيّ» مستبصراً إلى أعلى درجات اليقين حين نخلص معه إلى نتيجة، أنّ الرواية جنسٌ أدبي بينما «الروائيّة خطابٌ شعريّ»!
لا غروَ أنّ الشجن والغموض والحيرة تؤثّث فضاء الحكي متراميَ الأطراف في الكتاب عبر مداراتٍ توزّعت بين علاقة الزبيدي السيريّة بالسينما من جهة، وتموضع محمّد ملص فيها من جهة أخرى، فضلاً عن هوامش في حياة السينمائيين العرب، وحاجته لأن يتجلّى وجدانيّاً في أرجاء تفاصيلها، إلا أنها في كلّ ما سبق تحتاج إلى تنوّع أجناسيّ، تارةً يفرض على الوثائقيّة أن تسحب إلى تيّارها بنياتٍ من القصّ الأدبيّ تهجّنُ الشغف المعلول بوطأة المنافي التي طوّقت حياة قيس الزبيدي بسوار منجزاته العتيدة، وتارةً أخرى يستجلب الشعريّة كموضوع، وما تلك الأسطر المنضّدة في بداية المقال سوى مقطع من سياقات الكتاب، ولكي يتلقّاه القارئ كما يتلقّى قصيدة نثر، فعلنا به ما لم يفعله محمّد ملص في تدوينه الحروفيّ، حول أيقونة عربيّة من أيقونات فن المونتاج السينمائي قيس الزبيديّ، لقد منتجنا الكتابة وأعدنا إخراج الشكل البصريّ لبنيتها:
تجرّعتُ المجّة الأولى للشفق الوردي
على الستارة البيضاء،
فبدت السماءُ خلفَ الدانتيل الأبيض
كأنّها قطعةٌ
من سماء أياميَ الموسكوفيّة الأولى
قد تبدو مثل هذه الأنساق- وقد التقطناها كبنية واحدة مسترسلة – محطّاتٍ وجدانيّة تزفر عندها ذاكرةُ المؤلّف أنفاسَها الدراماتيكيّة على طول خط مضمار التوثيق، لكنّها لفرادة خامتها التعبيريّة والسياق الذي تخلّلته، فإنّها تتجاوز ذلك إلى كونها ممرات العبور الأجناسي، التي خلالها يأخذ المؤلف بيد القارئ العام والخاص على حدٍّ سواء إلى مسلكٍ ذوقيّ جماليّ تنصهر فيه صرامته السرديّة التوثيقيّة في خضمٍ عاطفيّ مستنير:
أحسّ بعد عودتي من مهرجان لايبزيغ؛ أنّي قطع متناثرة
تحتاج إلى مونتاج يلملمني
لا ينقصني إلا القليل من « الأستون « السائل،
الذي نستخدمه في المونتاج للصق الصور،
ليلصق شظاياي..
الشارع الآن خاوٍ، الأشجارُ عاريةٌ من الزيزفون
وبوابةُ «براندن بورغ « العمالقة
منارةٌ بضوءٍ مشعٍ،
ويرفرف فوقها علم..
لكن ما الذي نفعله بهذه الطريقة من التسطير وما هي الدواعي لذلك؟
يقدّم المؤلّف كتابه في قالب أجناسي محدّد وهو « الكتابة الوثائقيّة» وفي الوقت ذاته يظهر مهارةً في إثبات أنّ الأصالة الفنيّة في العمل الوثائقيّ تكمن في مدى إجادة ضخ المحتوى السردي ـ بكل ما فيه من أساليب وتقانات في المظهر الأجناسي، الذي يلائمه بشرط ألا تبدو هذه الممارسة تعالقاً أو تداخلاً بين بنيتين أسلوبيّتين وحسب، بل تتجاوزه إلى مماهاةٍ وتصاهرٍ يجعلان من الكتابة صورةً للحياة لا مجرد تسجيل حرفي للتجربة، ولعلّ هذه الطريقة التي قدّمناها في بضعة مقاطع فأعدنا إخراج شكلها البصري كتابيّاً كان ضرورةً لرفع الغطاء عن هذا التصاهر، فترسم حدوداً أجناسيّة كان محمّد ملص قد أذابها في بوتقة التوثيق، لتظهر الكتابةُ الوثائقيّة جنساً عابراً على أجناس أخرى، وسائر ما تصاهر وتداخل معها من بنيات تخلّلته هي أجناسٌ معبورٌ عليها، ليس لها أن تقاوم مركزيّتَه، ومن ثم لا بد لها أن تنجذب ذائبة في بنياتها، موجّهةً بموجباتها، ولعلّ هذه الموجبات فرضت نفسها على المؤلّف في صعيدين جوهريين، الأوّل حين قال (ما كان يحكيه قيس أو يرويه؛ وما كنا نتحاور حوله؛ كان كلاماً محكياً فاخترت أن أنسجه مع ما كنت قد كتبته في اليوميات الخاصة بي، سعيا لإخراج المحكي من بعده الشخصي) فالضرورة هنا تكمن في ضخ المحتوى السردي الشفاهي (اللهجويّ) بوجدانيّاته ومأساويّته في المظهر الأجناسي الذي يناسبه، فيبدو معبوراً عليه، دون أن يكون له أيّ مقاومة، أو خلخلة للقالب الوثائقيّ العابر، ولعلّ هذه اللياقة تشكّل مسلّمةً جوهريّة في كاريزما رائدٍ من روّاد «سينما المؤلّف» حيث أنتج خلالَ سنوات أفلاماً عدة كتبها وأخرجها برؤيته الذاتية منها: أحلام المدينة، الليل، باب المقام، سلّم إلى دمشق، فأي مادةٍ خام قام بصهرها في بوتقة التأليف سوى الشفاهيّة! ومن ثم إخراجها كبنية بصريّة.
أما الصعيد الثاني فيمكن أن نعتبره صعيداً مركزيّاً، يهدّد تماسك قالب الوثائقية في جنسه المحدّد بالتلاشي والانزلاق نحو القالب الفرويدي التشخيصي، وذلك للحقيقة التي وصل إليها المؤلّف قائلاً (الجانب الذي أعنيه هنا؛ هو أن يحتلكَ المونتاج ويصير ليس مهنة أو أعمالا فقط؛ بل مرجعاً في سياق العيش وفي التعامل مع أشياء الحياة، أن يصبح الدينامو المشغّل لذاتك).
عند هذا الصعيد يلجأ محمّد ملص إلى بنيات متخلّلة قصصيّاً، تتماهى مع التوثيقيّة عبر تداول مفردات منوطة بفن المونتاج تقنيّاً (لقد وقع قيس في أن يعيش في عالمٍ من «الرشز» فقد كان يتلفن لأحد ما ويسأله عن رقم تلفون ما، فيكتب الرقم على بطاقة ويضعها في مكان ما، كأنها لقطة من اللقطات المعلّقة على طاولة المونتاج.. وكأنّ اللحظة، أو اليوم أو المكالمة التلفونيّة أو الشخص الذي يلتقيه ليس إلا لفافة «لقطة من لقطات الرشز» ستقوم الذات أو الزمن بمونتاجها ورصفها أو رميه )
لكن: لماذا محمّد ملص وكتاب قيس الزبيدي؟
ثمّة ما لا بدّ من توفّره في ملكات المؤلّف فنيّاً قبل أن يكون بلاغيّاً، تجعلنا نتحرّى عبر مؤلّفاته أنموذجاً نقدّمه للقارئ عن الفارق الجماليّ بين تداخل أجناس كتابيّة وتعالقها لضرورة جماليّة قصديّة في مؤلّف واحد، مع المحافظة على مركزيّة قالبها وحدوده، بالتالي تجعل العمل خارج التجنيس، فيبدو تجريبيّاً غائمَ الهويّة والاستدلال، مقابل تصاهر أجناس كتابيّة وتلاشي مركزيّة قالبها في مؤلّف واحد، بحيث تمنحه تلك الضرورة الجماليّة دون أن تخلخل أو تمحو قالبه الأجناسي المحدّد، إن الجانب الفنّي الإبداعيّ الذي نثمّنه في فكرة العبور الأجناسي هو تلك القدرة وماهيّتها كذلك، التي يحوز عليها الكاتب لتفجير إمكانيّات النوع الأدبي ومنحه كاريزما العابر، إنّ هذه القدرة الفريدة لها تجليّات محقّقة في منجزات محمّد ملص من ناحية صهر المحتوى السردي في البنية البصريّة، حيث أنّ تشييد كيان لغوي تأليفي لديه يسبق ولادة الفيلم، خصوصاً على مستوى «سينما المؤلّف» أو الاستناد إلى كيانات لآخرين من كتّاب الرواية، وهذا الكيان اللغوي تتعرّض مقوّماته البلاغيّة مهما تعددت واختلفت أجناسيّاً، لصهرٍ وتماهٍ في بوتقة السمعيّ البصريّ، فهل هذه المزاولة المهنيّة قد تتحول مع المثابرة عليها إلى طريقةٍ تهيمن على حياة صاحبها، أدبيّاً على الأقل؟ يدوّن الكاتب ما آلت إليه حياة قيس الزبيدي وكيف حلّ فن المونتاج حَلولاً معرفيّاً في آليّات إدراكه وتعاملاته في الحياة، إلا أنّ محمد ملص ظهر أيضاً في هذا الكتاب وقدّ حلّ فن السينما حلولاً معرفيّاً في منطقه وتفكيره التقنيّ أدبيّاً، مرّة سألته هل يكفي الأسيتون السائل لإلصاق طرفي شريط الفيلم بعد القصّ فأجابني بلهفة: لا، لا يكفي، لا بد من وضعه تحت المكبس ليندمج طرفا الشريط وينصهران معاً، وإلا سيبدو أثناء العرض أنّ قطعاً ما أو تشوّهاً بصريّاً قد حصل، هكذا تماماً يمكن للقارئ بمتعةٍ واستنارة، أن يعبر على أجناسٍ أدبيّة متباينة النوع متصاهرةٍ بقالبها الأجناسيّ في الكتاب، دون أنّ يشعر بأنّ تشوّهاً قد اعترى القالب الوثائقيّ العابر، ولعلّي أطمع أن يقع هذا المقال تحت نظره ليجيبني عن سؤال ملك عليّ تفكيري بعد قراءة الكتاب:
هل كتّاب القراءات النقديّة مجازيّاً، يمارسون فنّ المونتاج وهم يقلّبون بين أيديهم مؤلّفاً أدبيّاً؟ ثمّة قصّ ولصق ومماهاةٍ وصهر بين الأنساق والسياقات، نسخٌ ولصقٌ من خزائن المفكّرين ومقولاتهم المركزيّة عن الأدبيّة، هل أحدنا بهذه الحالة يعيش في داخله قيسٌ زبيديٌ بطريقةٍ أو أخرى!
كاتب سوري