ألّف توفيق الحكيم مسرحية مصير صرصار سنة 1966، وهي من نوع مسرح العبث، أو مسرح اللامعقول، الذي ظهر في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية رداً على عبثية الحياة ولا معقوليتها. ربما لا تحظى مسرحية «مصير صرصار» بشهرة مسرحية «يا طالع الشجرة» 1962التي تعد النموذج الأول للعبث في مسرح توفيق الحكيم، لكن مسرحية «مصير صرصار» من النماذج المهمة أيضاً، حيث تكتمل فيها عناصر هذا الشكل الفني.وفقا لموقع القدس العربي
لا نقول إن توفيق الحكيم كاتب عبثي، إنما هو كاتب يجيد العبث عندما يريد أن يصنعه، بل إنه يكتب مسرح العبث على أفضل ما يكون وعلى أحسن ما يراد له. قديماً ساد مسرح العبث لسنوات وأثار اهتمام الجمهور والقراء والدارسين، وصار له رواده وأعلامه، ومنهم بيكيت ويونسكو وجينيه وأداموف، وغيرهم من الكتاب الذين اتجهوا إلى هذا النوع من التعبير الفني، فطالما أنه لا معنى للحياة، فليكن المسرح بلا معنى أيضاّ ويزيدها عبثاً فوق عبثها. وكما يعجز الإنسان عن فهم أسرار الحياة وتفسير منطقها، فليتعب كذلك في فهم ما يراه على المسرح، وفي محاولة إضفاء شيء من المنطق عليه.
من أهم ملامح مسرح العبث وجود الحيوانات والحشرات، وتوظيفهم بشكل رمزي في بعض الأحيان، وقد يتحول البشر في هذا اللون المسرحي إلى حيوانات أو حشرات، وربما يرى البطل في الحيوان أو في الحشرة شخصاً بعينه. وكما نجد السحلية في مسرحية «يا طالع الشجرة» عند توفيق الحكيم، فإن الصرصار في مسرحية «مصير صرصار» أصبح بطلاً تحمل اسمه المسرحية، وترتبط به الأحداث والشخصيات من بدايتها إلى نهايتها، ولا تنحل العقدة الدرامية، إلا بمعرفة مصيره، حتى عناوين الفصول الثلاثة تحمل اسمه أيضاً وهي، «الصرصار ملكاً»، «كفاح صرصار»، «مصير الصرصار». ويعد هدم البناء المنطقي والتسلسل المعقول، من العناصر الأساسية في مسرح العبث، فالكاتب لا يهدف إلى خلق مشاعر معينة عند المتلقي، ولا يعتبر نفسه مسؤولاً عن فهم المتلقي للأحداث من عدمه، بل يبدو أحياناً أن الكاتب يتعمد عدم وصول المتلقي إلى الفهم الكامل. لذلك يكون على المتلقي أن يُعمل عقله بدرجة كبيرة مع هذا النوع من المسرح، حيث لا مكان للعواطف العميقة، وإن حدث تأثر ما فإنه يكون في الغالب تأثرا عقليا لا شعوريا.
الصرصار وحديث السياسة
من مشهد واقعي لصرصار كان يحاول الخروج من البانيو الموجود داخل حمام المنزل، لكنه كان ينزلق كلما حاول الصعود على جدران البانيو الناعمة الملساء، استوحى توفيق الحكيم مسرحيته الرائعة، التي جعل فيها من ذلك الصرصار ملكاً، وأخذ يكتب على لسانه ويعرض الأمور من منظوره هو والمحيطين به، وهم زوجته الملكة والوزير والكاهن والعالم العلامة. لدينا إذن خمس شخصيات من الصراصير في الفصل الأول من المسرحية، الذي يحمل عنوان «الصرصار ملكاً»، وتدور أحداثه بالكامل داخل عالم الصراصير ومملكتهم، وبلاط قصرهم الذي هو بلاط الحمام، وساحته الفسيحة التي يحدها جدار عظيم وسور مرتفع هو سور البانيو. في أول ما نطالع من المسرحية، نقرأ عن صرصار نظر يوماً إلى وجهه في المرآة، وهذه المرآة ليست سوى مياه البالوعة، فأعجب بنفسه وبطول شواربه أيما إعجاب، وقرر أن يصير ملكاً. هذه البداية العجيبة تُدخل القارئ مباشرة إلى قلب العبث، وتثير عقله وتحفزه وتجعله في حالة يقظة دائمة، من أجل التقاط الإشارات والرسائل المشفرة التي يرسلها إليه توفيق الحكيم. قد يكون الفصل الأول هو الفصل الأكثر إمتاعاً بين فصول المسرحية، والأخطر فيما يخص الرسائل التي يبعث بها أيضاً، وهي بالطبع رسائل غير تامة المعنى كما تقتضي شروط مسرح العبث، لكنها على الأقل تضيء للقارئ بعض الرموز، وتضع أمامه علامات تأخذ بيده إلى أكثر من طريق. لا نفتقد المتعة في الفصلين الآخرين اللذين يدوران في عالم البشر، مع استمرار وجود الصرصار بطل المسرحية بالطبع، واختفاء الشخصيات الأربع الأخرى من الصراصير، التي كانت تحيط به ثم تخلت عنه عندما سقط في البانيو لعدم قدرتهم على إنقاذه. في الفصل الأول يستمتع القارئ بكتابة توفيق الحكيم شديدة الذكاء واللماحية، وقد ترافقه الابتسامة معظم الوقت، وعند لحظات معينة يستطيع الحكيم انتزاع الضحكات القوية من القارئ. المكان في الفصل الأول هو أرضية الحمام، تحديداً ذلك الجزء الممتد من البالوعة حتى جدار البانيو، وربما يكون هذا أغرب مكان مسرحي يمكن أن نصادفه، أما الزمان فهو الليل الذي يعد بالنسبة إلى الصراصير نهارهم ووقت نشاطهم.
يفتتح الملك الصرصار حوار المسرحية، بنداءاته المتكررة لزوجته الملكة الصرصارة، واتهامه لها بالكسل والتأخر في الاستيقاظ وبدء المهام اليومية. تظهر في الحوار ملامح صراع أنثوي ذكوري، وخلاف حول النديّة التي تنادي بها الملكة وترفع شعارها بما أن لها شوارب مثل شواربه، والفوارق والمميزات التي يقول بها الصرصار ويحاول من خلالها أن يثبت تفوقه وسلطانه، خصوصاً بشواربه الأطول من شوارب زوجته الملكة الصرصارة. يبدو الملك الصرصار مهزوزاً مزعزع الثقة أمام الملكة الصرصارة، ويعبر عن شعور يؤرقه لأنها دائماً ما تحاول الانتقاص من قيمته وسلطانه، لكنها تمضي في مواجهته وتقول له إنه لم يُطعمها يوماً، وإنها هي من تطعم نفسها بنفسها، وبناء على ذلك فهي إذن حرة، ومن حقها أن تنام متى تشاء وأن تصحو متى تشاء، يوافقها الملك بشأن حريتها، لكنه يعارضها في أمر الكسل، ويقول إنها يجب أن تتحلى بالنشاط وأن تكون قدوة للرعية. عند هذه النقطة ينتقل الحوار من الصراع الأنثوي الذكوري، إلى نقاش سياسي محبوك بلطف وذكاء وخفة دم توفيق الحكيم المعهودة، تستنكر الملكة الصرصارة حديث الملك الصرصار عن الرعية، وتتساءل أين هي تلك الرعية؟ فإنها لم تر أحداً من حوله سوى ثلاثة فقط لا غير، هم الوزير والكاهن والعالم العلاّمة، وتذكر ضرورة اجتماع الشعب حول الملك، وتضرب مثلاً بالنمل، ربما في إشارة إلى العالم المتقدم، الذي يجتمع في كل وقت للفارغ والملآن، ويهدد ذلك النمل مملكة الصراصير، على الرغم من أنه الأضعف والأصغر حجماً، لكن اجتماعه وعمله المنظم يهدد الصراصير طوال الوقت، فالصراصير لا تعرف النظام، لذلك لم تستطع أبداً أن تهزم النمل.