أنتيغون في غزّة

2024-07-10

صبحي حديدي

في مجموعته “أحد عشر كوكباً”، 1992، كان محمود درويش قد فاجأ جمهوره (وأقصد العريض والقياسي والحاشد، مثل المصغّر والمتخصص والنخبوي) بثلاث قصائد: “أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي”، التي ردّها كثيرون إلى خلفيات امتزاج سقوط غرناطة 1492 ومفاوضات اتفاقيات أوسلو؛ و”خطبة ‘الهندي الأحمر’ ــ ما قبل الأخيرة ــ أمام الرجل الأبيض”، التي تستعيد الذكرى الـ 500 لـ”اكتشاف” أمريكا؛ و”سنختار سوفوكليس”، التي تشتغل على مَزْج غير مباشر بين التراجيديا الإغريقية ونظيرتها الفلسطينية.

كانت هذه القصائد الثلاث تدشن عودة درويش إلى القصائد الطويلة، والمشهد الملحمي العريض الذي لا يقهر النبرة الغنائية حتى وهو يستأنس بالموضوع التاريخي، والذي ينفتح على تجارب إنسانية تراجيدية كبرى (الإغريق، طروادة، المغول، الهنود الحمر، الأندلس…)، ويبحث للفلسطيني عن موقع فيها؛ للفلسطيني ذاته أوّلاً، ثمّ للإنسانية جمعاء بعدئذ. وفي تلك المرحلة، كان درويش يستكمل الفصل الأنضج من تجربته في مصالحة الموضوع الملحمي مع الموضوع الغنائي، وكان يقدّم صياغة فذّة لمراوحة الفلسطيني بين صورة البطل الملحمي الملتَقط على هيئة ضحية، وصورة الفلسطيني العادي الخاضع للاحتلال والواقف أمام منعطف سلام يأتي ولا يأتي. وفي كلّ هذا، ظلّ درويش يرسم صورة شعرية رفيعة لآلام وآمال هذه المراوحة.

غير أنّ القصيدة الثالثة كانت، أغلب الظنّ، هي الأكثر انطواء على غموض المقاصد والتباس الدلالة وتشابك الروابط؛ ولعلها انطوت على المشقة الأشدّ في التلقّي، واستوت في عسر هذا الاستقبال شرائحُ جمهور درويش المختلفة المشار إليها أعلاه. فالقصيدة تقع في 117 سطراً، ويتنوّع معمارها الشكلي على مقاطع تتراوح أطوالها بين سطرين إلى 32 سطراً، ولا يستقرّ ذكر سوفوكليس على حال جلية ملموسة بين الاسم ذاته تارة أو الصلة الإيحائية تارة أخرى أو التضمين خارج الاقتباس المباشر هنا وهناك. وثمة، إلى هذه العناصر وسواها، سياقات باعثة على خليط من الحيرة والتأمل والتعجّب؛ كما حين يقول درويش:

“ونحنُ الذين احترقنا بشمس البلاد البعيدة، نحن الذين

نجيء إلى أوّل الأرض كي نسلك الطرق السابقة

وكي نملك الوردة السابقة

وكي ننطق اللغة السابقة

سنختار ‘سوفوكل’ قبل ‘امرئ القيس’، مهما

تغيّر تِينُ الرعاة، وصلى لقيصر إخوتنا السابقون

وأعداؤنا السابقون معاً في احتفال الظلام”.

مدعاة بهجة، والحال هذه، أن تعود الأكاديمية والناقدة المسرحية أستريد شابرات – كايدان، الأستاذة في جامعة ليون 2 الفرنسية، إلى هذه القصيدة؛ ولكن ضمن مسعى اقتفاء الترابط الجدلي مع عرض مسرحية “أنتيغون” كما قدّمه في مدينة القدس، بإخراج مميز ورفيع، المسرحي المصري ــ الفرنسي الراحل عادل حكيم (1953 – 2017)، الذي نشط أيضاً في تنظيم تعاون وثيق بين “مسرح إيفري” في الضواحي الباريسية، و”مسرح الحكواتي” حسب التسمية الأشهر للمسرح الوطني الفلسطيني. قراءة شابرات- كايدان جاءت في فصل بعنوان “استخدام التراجيديا الإغريقية لتكريم المقاومة الفلسطينية”، ضمن كتاب صدر بالإنكليزية مؤخراً عن منشورات بلومزبري، بعنوان “التراجيديا الإغريقية والشرق الأوسط”؛ احتوى كذلك على دراسات تتلمس الخلفيات ذاتها في مسارح مغربية وعراقية وإيرانية ولبنانية وتركية. تعديلات كيثرة أدخلها حكيم على نصّ سوفوكليس الأصلي، في ترجمة عبد الرحمن بدوي وفي تنويعات بالمحكية المصرية وترجمة مرئية إلى الفرنسية؛ لكنّ ما يتوقف عنده شابرات- كايدان على نحو خاصّ هو لجوء المخرج إلى استبدال الجوقة الإغريقية المعتادة، والنشيد الخامس الذي يختتم المسرحية في الأصل، بقصيدة محمود درويش الشهيرة “على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة”، عن طريق الإنشاد ورشق النصّ على الخلفية في آن معاً. كان ذاك هو التعديل الوحيد الذي أدخله حكيم على بنية المسرحية في الأصل السوفوكلي، لكنه في نظرها كان حاسماً واختراقياً، خاصة حين تبدو معه فلسطين بمثابة طيبة معاصرة وراهنة، ولن يخفى على المشاهد مستوى التقاطع بين الكيان الصهيوني واستبداد الحاكم كريون، وبين شجاعة أنتيغون في تحدّي البطش لدفن أخيها وشجاعة امرأة فلسطينية تواجه الاحتلال…

كذلك فإنّ لجوء المخرج إلى مقاطع موسيقية من فرقة “الثلاثي جبران” الفلسطينية، وتحديداً من ألبوم “في ظلّ الكلام” الذي يرافق العديد من قصائد درويش ويقترح العود كآلة موسيقية مركزية، كان بمثابة تشديد إضافي على البعد الفلسطيني الصريح في استعادة سوفوكليس؛ خاصة حين تتكامل ثلاثة عناصر: النصّ المسرحيّ الأمّ، شعر درويش، والموسيقى. وليس أقلّ تأثيراً، كما تشير شابرات- كايدان، استقرار حكيم على ملابس صارمة الطراز لجهة التماهي مع الزيّ الفلسطيني من دون محاكاته حرفياً، والتشديد على ألوان الأسود والأبيض والرمادي.

والحال أنّ أشعار أمثال معين بسيسو ومحمود درويش ورفعت العرعير، شاعت على نطاق واسع خلال حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة وسائر فلسطين، لكنّ هذا الكتاب الجديد لا يذكّر بتجربة مسرحية فذّة في توظيف التراجيديا الإغريقية لإدانة الاحتلال وتكريم المقاومة، فحسب؛ بل يبدو بمثابة انبعاث حيوي طافح بالمعنى، يكرّس شخصية أنتيغونا سفيرة كونية إلى فلسطين قاطبة أوّلاً، ثمّ تالياً إلى غزّة المدينة والشجاعية ورفح وجباليا ودير البلح والنصيرات والشاطئ…








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي