الرجل الوحيد

2024-05-05

رضا نازه

رفع رأسَه وسط الرؤوس المتطامنة وصوتَه قائلا: «هْنِيَّة هي الرجل فيكم!»، سرت يمينا ويسارا همهمات متبرمةٌ متبرئة من عبارة اتخذها البودالي لازمة منذ الصباح. كان يرددها بصوت جهوري لا يخطر ببال سامعه أن صاحبه بنحافة البودالي وخفته. اغتاظ من اغتاظ وظل هو يستمتع بارتدادات لازمته وهزاتها ووخزاتها. إنها الحقيقة. الأجراء مستسلمون وانتظار الشهرية بعد الشهرية صفدهم وكبلهم واعتقل ألسنتهم. تأملهم. محابيسُ مستودع كبير، الشتاء يقتلهم فيه صبرا، ولفح الصيف على سقف الزنك يقتلهم خنقا. كانت لازمته البارحة لماذا «لم يدقوا جدران الخزان» وكانت فرصة ليحكي لهم باعتداد قصة رجال في الشمس ماتوا لأنهم لم يستغيثوا، فضلا عن أن يحتجوا. لكن الاحتجاج استغاثة في كبرياء. تلك آخر قراءاته في آخر سنة من سنوات دراسته الثانوية، تكلست في ذهنه وتبلورت فلا ضير عليه إن لم يقرأ بعدها شيئا..

عاد المستودع لهدوئه ورفع من جديد لازمة اليوم: «هنية هي الرجل فيكم..». ارتسمت على شفتي هنية في زاويتها بسمة المنتصر. إنها رَجُلة. إنها شجاعة. غالبت خوفها المضروب في خوف الجميع، واحتجت على ظروف العمل الكئيبة. لم تحرض على إضراب ولا عصيان، أرادت فقط أن تتحدى الاضطهاد وتنفس عن غضبها كيلا يستحيل كمدا ثم داءَ غدد، يكلف دواؤه ثلث الأجرة أو نصفها، فإذا بالأجير يشتغل صباح مساء على قدم الإفلاس وساقه..

خيم الصمت فإذا بعقب حذاء جغضور يسمع عنوةً على البلاط البارد. مصعرا خده كان يجول بين الصفوف، وفي مشيته ازورار كأنه سلطعون يدب منحرفا بين الأحجار. جغضور لا يحضر عبثا. تحت نظارتيه ومظهره المحنط رادار يمسح السكنات والحركات القليلة، والمستودع لا يقع فيه إلا ما هو رتيب مكرور.. لكن هنية بدت اليوم في رادار جغضور جسما غريبا، نتوءا.. أزاح النظارة وحدق تجاهها. شيء لافت هناك. ومثل ثور الكُورِّيدا الأهوج حين يجذبه اللون الأحمر، هب إلى زاويتها. انتصب أمامها. ألفاها مُكِبة على عملها في صمت، وصمتها فيه قولان. نعم للعمل والشارة الحمراء حول ذراعها تقول لا، وبجانبها وضعت صورة الملك مقتطعة من زيارة لريغان أو لجيسكار ديستان. كانت الصورة ملصقة بلوحة كارتون، عساها تكون مظلة ملك في سنوات قوته تقيها أذية رئيس صغير في مستودع كبير..

الجثة الضخمة أمام هنية. وهنية تجتهد ضعفين كي تغالب خوفها الشجاع وشجاعتها الخائفة. اقتربت جثة جغضور حتى حجبت عن المرأة ضياء مصابيح السقف. الجميع على إيقاع زفير واحد ينتظر، وزفير جغضور كأنما يُسمع في مُكبر. رُغم تأثر بصرها بصاحب الظل العريض البغيض وقد جاوز بصرها الخمسين سنة، غالبت هنية كل حاجاتها واستمرت في عملها غير آبهة بالوقوف الحانق. صار زفير جغضور أجهر وهي تمعن في عدم الالتفات. الملتفت لا يصل. لكن الرسالة وصلت. ولعل حركتها تأتي بمدد من زملائها كي يقوموا قومة رجل واحد ليطالبوا بتحسين ظروفهم. وهو أضعف الإيمان. لكن هيهات. الاحتجاج من ضعيف واحد يصير عادة فرجة للضعفاء، بدل استنفار نجدتهم. ثم جغضور مخيف. ولازمة البودالي ساطعة سطوع الشمس فوق الخزان المختنق الكبير. الزفير يزداد وهنية ارتسمت على وجهها علامة الاكفهرار والعبوس، ويدها تكمل العمل كأنها ربان آلي.. لكنها غير يائسة من إسنادٍ ممن حولها ونصرة على الصنم البشري الواقف هناك. لكن الصمت اشتد، والسكون خيم. لولا زفير جغضور الذي صار مثل مواء الوعيد بين قطين غاضبين تسمرا وجها لوجه في زقاق مظلم في جوف الليل.

وبخفة النشال امتدت يُمنى جغضور إلى شريط هنية الأحمر فنزعته، وامتدت يسراه إلى صورة الملك المهيبة واختطفتها. قامت هنية تحاول منعه. وقع شد وجذب ومقاومة من المرأة النحيفة رجلِ المستودع الوحيد، انكسر الورق المقوى وانثنت الصورة وانكسرت أطرافها واختفى الوجه الملكي تحت إبط جغضور ولسان حاله يقول.. أنا الأمير هنا.. أنا أبو الخيزران و»الليفياتان». جحظت عينا هنية ومكثت تنظر في وجه جغضور نظرة من غلبَها الدَّيْنُ وقهرها الرجال. ولَّى منصرفا فصرخت على أثره: «حسبي الله ونعم الوكيل» استدار جغضور وحدَجَها بنظرة شزراء مستعلية وتوعدها بعقاب تأديبي، ومضى يمسك الشريط الأحمر بقبضة متشجنة وتحت إبطه الصورة المكسورة في غير تبجيل ولا توقير..عُمَّال المستودع كانوا على ما كانوا عليه، صما بكما، كأن في المستودع شخصان حيان فقط، والباقي أرقام تأجير. حتى البودالي لم ينطق في ركنه. وما يجدي أن يمدح رجولة هنية عند غياب جغضور فقط. صرخت هنية: «عقل عليها فين تجيك.. غادي نخرج عليك يا جغيضير». لكن.. أنى لامرأة ضعيفة أن تخرج على الإدارة في شخص ممثلها والإدارة لا تقرَبُ المواطن إلا لتغلبَه؟ وهل تغني صورة ملك قوي في يد مواطن ضعيف؟

مساءً مضى الكل لحال سبيله وخرج جغضور من المستودع يقصد مقهاه. واثق الخطوة كعادته ينظر للعالم نظرة شوساء من أعلى، تسعفه في ذلك جثته الضخمة، ويقينٌ بأنه يقوم بعمله أحسن قيام ويقمع العوام. عند ممر الراجلين توقف ليعبر الطريق. التفت فجأة وأحجم بسبب سيارة أتت بسرعة هائلة حتى توقفت أمامه. نظر إليها مندهشا. كانت سيارة شرطة. الواشمة شخصيا كما يسمونها. توقفت وحجبت عنه ممر الراجلين، وانفتح بابها فورا ونزل من فيها من جهة السائق. ما الخطب؟ هاج على جغضور تسونامي من الهلع والجزع والأحاسيس المقشعرة والتأويلات القصوى والتوقعات والتوجسات، فسقط فورا مغشيا عليه. كان آخر عهده بالوعي، وعيد هنية بأن يحدث له شيء ما، وشبه يقينه بأنه سيفتح عينيه، إن فتحهما، في قبو سري وحولَه أشباحٌ تحقق معه وتذيقه طعم جرأته على الصورة المبجلة..

لكن الواشمة كانت عابرة فقط. سائقها بلباس مدني كان قد نزل وعبر الطريق يحث الخطا إلى الضفة الأخرى، ليقتني قنينة ماء، أو يستلم فنجان «نص – نص» من نادل المقهى المقابل، أو يقضي حاجة في المرحاض أعلاه، ثم عاد كما ذهب، لم يستوقفه تجمع من الناس من الجهة الأخرى يحجبون الرجل المصروع. نظر إليهم عبر الزجاج المغلق. لعلها حلقة لاعبي ورق أو «ضامة». لا وقت هناك. يبدو في مهمة. حرك سيارته الواشمة وانطلق لحال سبيله لا علم لديه بما اعتمل في قلب رئيس مستودع اسمه جغضور، توعدته عاملة اسمها هنية بشيء ما سينزل به ويخرج عليه خروج الكاسر على الداجن. واختفت سيارة الشرطة في سيل السيارات وحمل الناس الرجل المصروع إلى مستوصف قريب لعل أحدا يسعفه..

غاب جغضور عن مستودعه أياما. ثم عاد على غير ما كان عليه. صار يختلي بنفسه ويغلق عليه باب مكتبه كثيرا. تلصص عليه البودالي يوما فرآه يحقن نفسه بإبر.. كأنها الأنسولين.. فكان أن أضاف البودالي إلى لازمته.. «هنية هي الرجل الوحيد، وولية يُخشى منها الوعيد».

قاص مغربي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي