الكاتب الجزائري بوعلام رمضاني: الاختلاف مع «حماس» لا يبرر صمت مثقفين تقدُّميين

2024-04-21

حاورته: فريدة حسين

على مدار عقود، سواء في الجزائر وبعدها باريس تمرّس الكاتب بوعلام رمضاني وعاش الشأن الثقافي، الذي من خلاله حوّل تجاربه المهنية والحياتية إلى مؤلفات صحافية وإبداعية.

وتبعاً للمواقف المتفاوتة للبلاد العربية والعالم مما يحدث في غزة، يأتي إصداره الجديد «شاهد ثقافي على إبادة غزة» وفيه يوضح كاشفاً موقف الصامتين في زمن تراجيديا شعب حاربت إسرائيل كل مقاوميه، فاضحاً المثقفين المتواطئين مع إسرائيل بصفة مباشرة، أو غير مباشرة باسم معاداة الإسلاميين. عن مواقف وآراء الرجل في الشأن الثقافي الجزائري والعربي عموما كان الحوار التالي..

سبق أن صرّحت بخصوص كتبك بأنها نتاج تجاربك المعيشية.. هل يمكن اختصار هذه التجربة في تقديم مبسّط؟

لا أعرف إن قلت ذلك حرفيا، إن كان الحال كذلك، فإنني أعتذر لتسرعي في التعبير. لديّ مشاريع كتب يمكن أن ينطبق عليها تعبير «تجارب معيشية» مثل كتاب عن أمي رحمها الله، وكتاب طفولتي في الجزائر الشاطئ، التي أصبحت منفاي الثاني بعد باريس، وكتاب مذكراتي الصحافية. أبدأ بكتابي الأول «المسرح الجزائري بين الماضي والحاضر» (1984) الذي تضمن مقالاتي وتحقيقاتي عن المسرح الجزائري وحوارات مع أبرز شخصياته، ومن بينهم الراحل عبد القادر علولة الذي «أحييته» هذا الشهر بمداخلة تحت عنوان «علولة الظاهرة الفسيفسائية الأبدية» تخليدا لذكرى اغتياله على قارعة الطريق في وهران مسقط رأسه يوم العاشر من مارس/آذار من عام 1994، وأضيف أنني لم أكن أفكر في نشر هذا الكتاب، بسبب عدم اقتناعي بمحتواه الناقص منهجيا، استنادا لعنوانه، لكن رغم تواضعه وحدوده المنهجية، استعمل الكثير من الباحثين هذا الكتاب في دراساتهم الجامعية. ثم جاءت الكتب اللاحقة.. حول هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، ودور الثقافة والفنون في محاربة العزلة الاجتماعية أثناء الحجر الصحي الذي فرضته علينا جائحة كورونا، وحول أنوار باريس الثقافية. في الكتابين الأخيرين، قدمت للقراء شخصيتَيْ المستعرب الراحل أندريه ميكيل، الذي قضى حياته العلمية كاتبا ومدرسا وشاعرا باللغة العربية، وجاك لانغ أشهر وزراء الثقافة في فرنسا بعد أندري مالرو، والرئيس الحالي لمعهد العالم العربي، الذي تم تمديد عهدته للمرة الرابعة في سن الرابعة والثمانين بتزكية من كل السفراء العرب والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. كل هذه الكتب هي نتاج متابعتي للشأن الثقافي في عاصمة أوروبية، اشتهرت بزادها التاريخي العريق في الفكر والفنون والعيش في ضوئها اجتماعيا وحضاريا.

آخر إصداراتك كانت كتاب «محارب ثقافي اسمه جاك لانغ» لماذا هذا الرجل؟ ولماذا هذا العنوان؟ وهل الحاضنة الجزائرية والعربية تمتلك محاربين ثقافيين في العصر الحالي؟

أهمية كتاب «محارب ثقافي اسمه جاك لانغ» أهمية مبدئية، مثلها مثل الأهمية القصوى لكتابي عن المستعرب أندريه ميكيل. مبدأ تقديم إضافة نوعية تقود كل كتاباتي، وأدعي، أنني ضمنت قدرا كبيرا من الإضافات القابلة للنقاش ككل الاجتهادات، لكنها إضافات مؤسسة على مقاربات ومعلومات جديدة، وعلى إشكالات تضرب بصلبها في الراهن العربي والإسلامي بشكل أو بآخر. كما فعلت مع المستعرب أندريه ميكيل الحكيم عاشق الشرق، فعلت مع جاك لانغ. ميكيل ألّف حوالي 100 كتاب حول الحضارة العربية والإسلامية، وهام باللغة العربية، ورغم ذلك كل ما قدّمه لنا كعرب ومسلمين، الكثير من الطلبة والأساتذة المتخصصين لا يعرفون الرجل الذي خلدّ المتنبي شعريا، وترجم أشعار السياب وألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة، وألّف أربعة أجزاء من كتاب تاريخي تناول الجغرافيين العرب، وهو الكتاب الذي أخذ منه 15 عاما من البحث. جاك لانغ قضى حياته محاربا ثقافيا كوزير للثقافة، رفقة الرئيس الراحل فرنسوا ميتران، وفعل ذلك محاربا بعض رفقاء دربه الأيديولوجي اليساري، وأعدائه من اليمين واليمين المتطرف. حتى يكون الإنسان محاربا ثقافيا، يجب أن يعترف بوجوده الحر في مجتمع يجعل من الثقافة شرطا وجوديا ضمن استراتيجية تنموية متوازنة، هذا الشرط غائب في كل البلدان العربية دون استثناء.

معروف عنك اهتمامك الكبير بالمسرح، وقلت إنه «يعالج كل الأوجاع» ما موقع المسرح في حياتك كشخص عادي وكصحافي وكاتب؟

«الحياة مسرح وكل الناس يمثلون فيها» وأضيف من جهتي «أن المسرح هو الفن الأكثر شمولية بحكم اتصاله المباشر بالجمهور، وماهيته متعددة الجوانب فكريا وفنيا، وبالتالي الأقدر على معالجة أوجاع الإنسان». القول الأول المنسوب إلى شكسبير على ما أعتقد يرد على سؤالك. أنا أمثل دورا مسرحيا ناتجا عن مساري الشخصي والمهني والمعرفي والمزاجي، كما هو حال كل المسرحيين، وكل مسار ينتج توجها نفسانيا وسوسيولوجيا وفكريا. اهتممت بالمسرح في عز شبابي مواكبا فترة ذهبية في تاريخ المسرح الجزائري، وأجبرت أن أترك الكتابة النقدية والاهتمام بالمسرح بعد هجرتي إلى باريس عام 1991. غياب الصحافة الثقافية المتخصصة والصادرة باللغة العربية في فرنسا، وتهميشها في العالم العربي، حقيقة تراجيدية ما زالت تشكل عائقا موضوعيا في وجه الصحافي الثقافي على الصعيدين الشخصي والمهني. الصحافي الثقافي لا يوظف مثل الصحافي السياسي والرياضي، ويعاني الأمرين لبيع مقالاته الثقافية، التي لا تضمن له عيشا محترما. لا أذكر اسم صحيفة عربية تابعة لدولة غنية، اضطر مسؤول قسمها الثقافي، لأن يحد من نشر مقالاتي قبل أن يطلب مني التوقف عن الكتابة بسبب تقليص الموازنة. ضحّت الصحيفة بملحق الكتب دون أن تغير من حجم اهتمامها بصفحات السياسة والرياضة والمنوعات.

يقال: «يحدث أن يصبح الوطن منفى، ويحدث أن يصبح المنفى وطنا». وأنت جزائري مقيم في فرنسا، ماذا تقول عن هذه الثنائية «منفى- وطن» وما هي فلسفتك الخاصة عن الوطن بمفهومه الواسع؟

خير من عبرّ عن هذه الثنائية الشاعر والروائي مالك حداد بقوله: «لا نصل أبدا إلى الجزائر للمرة الأولى، وحينما نغادرها لا نفارقها أبدا». أنا ابن هذه المقولة. شخصيا لا أؤمن بعيش سعيد دائم خارج الوطن. نعم يجب أن نسافر ككل الناس الحية، كما كانت تقول لي أمي الأمية، رحمها الله، لكي نتعلم ونسعد ونكتشف الآخر، لكن العيش الدائم في الخارج، وترك الوطن في سن الشباب لا يمكن إلا أن يعد بترا سيكولوجيا لا يمكن علاجه بالرفاه المادي في تقديري المتواضع. السعادة راحة نفسية قبل كل شيء، ولا راحة نفسية خارج المنزل الأول، والراحة النفسية لا تنتج حتما عن الرفاه المادي، حتى إن كانت المادة تعد عاملا يجب أن يؤخد بعين الاعتبار.

حُذف اسمك كما علمت من قائمة فقرة كتاب «الدياسبورا» التي برمجت في الصالون الدولي الأخير للكتاب.. ما تعليقك؟

نعم، بلغني ذلك، لأنني لست من المؤيدين للجزائر «الجديدة» بصفة عمياء كما فعل الكثيرون مع الجزائر «القديمة». تاريخ قدم الجزائر يعود إلى عام 1962. نُظم قبل عامين نشاط حول موضوع كتابي «أنوار في ليل كورونا» (دور الثقافة في مواجهة العزلة والكتاب بوجه خاص). لم يفكر أحد في دعوتي، رغم أنني ما زلت الوحيد الذي تناول الجائحة ثقافيا، ووجهت الدعوة لروائيين. الأمر ليس اعتباطيا، هناك مرضى الحسد في كل بقاع العالم، وهناك الجهل والتجاهل أيضا.

قلت «الانتهازية موهبة متسلقي كل الأيديولوجيات واللغات المتنازع عليها. إلى أي مدى يمكن إسقاط ذلك على مثقفين جزائريين؟

تعبير ساخر، لكنه حقيقة تراجيدية. الانتهازية ليست وقفا على مثقفين جزائريين أعرفهم جيدا من كل التوجهات الفكرية واللغوية. الانتهازية لصيقة بأصحاب الشخصيات المهزوزة، والباحثة عن المصلحة الشخصية في كل الأحوال الأيديولوجية، وتنطبق على الكثير من عامة وخاصة الناس، الأمر الذي يمكن أن ينسحب على مثقفين معيّنين في أنحاء العالم. الانتهازية تزدهر في البلدان الأكثر فسادا في العالم بحكم علاقتها بالولاء السياسي الأعمى، وليس بالكفاءة والنزاهة والصدق.

إلى ماذا تعزو غياب التعايش اللازم والمثمر فكريا بين المثقفين الجزائريين باختلاف تياراتهم؟

الانقسامية اللغوية وبالتالي الثقافية تعصف بالمجتمع الجزائري، باعتبارها تركة استعمارية ثقيلة، حسب المحلل الاجتماعي ناصر جابي، وقليلة هي أسماء المثقفين المتعايشين فكريا. المعرّبون في جهة، والمفرنّسون في جهة أخرى، وجمهور اليساريين غير جمهور الوطنيين الممزوجين بقومية، تارة ما وبإسلاموية تارة أخرى، ونادرا ما يجتمعون في تظاهرة واحدة في كنف الاحترام المتبادل. يتقاذفون تهم التبعية والشوفينية بعيدا عن كل أشكال النقاش الفكري المثمر. ما عليك إلا متابعة ما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي للتأكد من الطلاق البيّن بينهم. الظاهرة ليست منفصلة عن خلفيات ومسؤولية سلطة لم تكن يوما قدوة لتعايش سياسي وفكري حر، وممثلة لانفتاح على الرأي المخالف الآخر.

تحدثت في سياق الإعلان عن قرب صدور كتابك الجديد «شاهد ثقافي على إبادة غزة»عن المثقفين المتواطئين مع إسرائيل بصفة مباشرة، أو غير مباشرة. هل من توضيح أكبر، ونماذج ملموسة؟

محمد سيفاوي كان واضحا في دعوته نتنياهو إلى الإسراع بالقضاء على «حماس» ياسمينة خضرا تعجب فقط لأمر الذين سعدوا بما فعلته «حماس» قائلا «إنهم ليسوا من البشر». خلافا لمثقفين إسرائيليين وفرنسيين وسياسيين رفضوا وصف «حماس» بالحركة الإرهابية (شلومو ساند وإيلان بابي وألان غريش وجان لوك ميلنشون) فضّل مثقفون كثر في الجزائر وغير الجزائر الصمت على إدانة تتماشى وتوجههم الثوري المزعوم، باسم معاداة الإسلاميين أو إدانتهم في المطلق، دون وضع سياق الصراع التاريخي بين محتل صهيوني وشعب فلسطيني مستعبد. الرأي العام العالمي أسقط للأبد طروحات الطاهر بن جلون وكمال داوود. أحترم الذين عبّروا عن موقفهم رغم اختلافي معهم، ولا أحترم واستغرب موقف الصامتين الذين يقضون وقتهم يجرون وراء الجوائز والندوات، سعداء في زمن تراجيديا شعب عربي حاربت إسرائيل كل مقاوميه بمن فيها اليساريون مثلهم، وبالتالي غير الإسلاميين، فالاختلاف مع إسلاميي حماس لا يبرر صمت مثقفين تقدّميين.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي