أرض محمود درويش ونمط فلسطين

2024-03-10

صبحي حديدي

يندر أنّ غالبية من دارسي شعر محمود درويش تتفادى التركيز على، أو حتى الابتداء من، علاقة الشاعر بالأرض؛ وفلسطين على وجه التحديد، في تمثيلاتها التاريخية والثقافية والأسطورية، فضلاً بالطبع عن مسمياتها الجغرافية.

استعارة الأرض وما اقترن بها وتوسّع عنها وحولها من مجازات شتى، تحوّلت إلى أحد أبرز التصنيفات المسبقة لقصيدة درويش، وامتزجت في إسارها الدراسة الجادة المتعمقة مع القراءة السطحية المتسرعة، فضلاً عن البصمة المطلقة الأقرب إلى كليشيه مُجمَع عليه باتفاق عريض أو حتى من دونه. وعلى امتداد سنوات طويلة، كان موقف درويش من هذه الحال قد اتخذ وجهات مختلفة، بينها قبول لا يخلو من ترحاب تارة، أو الإيحاء بأنّ نظرته إلى الأرض تبدلت تارة أخرى، أو لم تعد نمطية وجامدة؛ ولم يخلُ الأمر من الشكوى أو حتى الرفض خلال الأطوار التي شهدت تطوّر مضامينه وخياراته في الشكل.

ثمة بالطبع طرائق أخرى كثيرة لدراسة موضوعة الأرض في قصيدة درويش، تتيح إمكانية تفادي تلك التصنيفات المسبقة وعدم الركون إلى ما تنطوي عليه موضوعياً من اختزال تلقائي، من جهة أولى؛ كما توفّر، من جهة ثانية، منهجيات أكثر قدرة على سبر واستكناه الجماليات العليا والفائقة التي حققها درويش من خلال تعددية، وليس أحادية، مقاربة الأرض.

ولعلّ مفهوم الـArchetype، أو النموذج الأوّل والمثال والمثل الأصلي كما تترجمه بعض الموسوعات العربية، أو النمط الأعلى كما تفضّل هذه السطور؛ هو وجهة فعالة، عالية المرونة وملموسة الصرامة في آن معاً، لإنصاف خصوصية الأرض في قصيدة درويش وعلى امتداد شعرياته المتعاقبة. وعلى هامش معرض مسقط للكتاب، خلال ندوة بعنوان «التشبث بالأرض في الأدب الفلسطيني» أدارها الصديق الروائي والإعلامي العُماني سليمان المعمري وضمّت فخري صالح وعادل الأسطة وكاتب هذه السطور؛ أُتيح لي الاتكاء على هذا المفهوم لرصد خمسة أنماط من التمثيل الأعلى لموضوعة الأرض عند درويش: التراب، فلسطين، المرأة، الجغرافيا التاريخية/ الحضارية، والمكان الكوني.

ولأنّ المقام هنا لا يسمح بالاستفاضة، فإنّ هذا العمود سوف يقتصر على نمط فلسطين، حيث كان بديل درويش عن المفردة/ التسمية المباشرة هو غالباً البلد، أو بلادنا، أو بلادي، أو حتى بلاد الناس؛ لأسباب عديدة ومركبة، لعلّ أشدّها اقتراباً من مفهوم النمط الأعلى هو أنّ فلسطين المعطيات التاريخية والجغرافية والرمزية والفولكلورية كانت الأقدر على استجماع التمثيل الإجماعي والجَمْعي. وليس مفاجئاً، في سياق خلاصة كهذه، أنّ مجموعة درويش الأولى البكر «عصافير بلا أجنحة»، 1960، كانت الأكثر احتواء على مفردة البلد واشتقاقاتها، وبلادي بصفة خاصة؛ فكتب الشاعر عن بلاده التي ضاعت العصافير وراء أفقها، والتي بلاد كل الناس في كل البلاد، وهي أرض الضياء، وبها خلق الموتُ حبَّ الحياة…

لكنه لن يتردد في عنونة مجموعته الثالثة «عاشق من فلسطين»، 1966، التي ستفتتحها القصيدة حاملة العنوان على النحو الأعلى إفصاحاً عن التعلّق بالوطن/ الأرض والوطن/ الهوية والوطن/ فلسطين؛ التي هي شوكة في قلب الشاعر توجعه ويعبدها، وهي أعزّ عليه من روحه، ويراها في خوابي الماء والقمح؛ إلى أن يقول في المقطع الشهير: «فلسطينية العينين والوشم/ فلسطينية الاسم/ فلسطينية الأحلام والهمّ/ فلسطينية المنديل والقدمين والجسم/ فلسطينية الكلمات والصمت/ فلسطينية الصوت/ فلسطينية الميلاد والموت».

والأرجح أنّ ندرة استخدام مفردة فلسطين كانت خياراً أقرب إلى استراتيجية تعويض تعمّد درويش تسخيرها لتصعيد مدلولات التسمية، إلى ما هو أبعد من معاني البلد أو الوطن أو حتى الهوية، في تعريفاتها المباشرة أو الآنية؛ خاصة حين يحرص على رفدها بأبعاد حضارية وإنسانية عريضة، عربية (كما في العبارة الشهيرة «سجّلْ أنا عربي»، أو حين يخاطب جمال عبد الناصر عبر «جرح الحسين»، و»مجد أميّة»، و»سدّ أسوان»)؛ أو كونية عابرة للجنسيات (كما في «كل» قلوب الناس جنسيتي/ فلتسقطوا عني جواز السفر»).

وبمعنى التمثيل الأعلى للنمط، ظلت مفردة فلسطين محطّ إبدالات مجازية تارة أو دلالية تارة أخرى، والأرجح أنّ درويش عاند طويلاً، وبذكاء فنّي فائق، إزاء تسلل الاشتقاقات الفلسطينية إلى قصيدته؛ مقتنعاً بأنّ النقلات الأسلوبية الحاسمة التي شهدتها شعريته بعيداً عن الموضوعة السياسية المباشرة، اقتضت التقشف في استخدام المفردة. الأمر الذي لم يمنعه، بالطبع، في مجموعة «ورد أقلّ»، 1986، من توصيفها بالاسم، على النحو الأقصى الشهير: «على هذه الأرض سيدة الأرض/ أمّ البدايات/ أمّ النهايات/ كانت تسمى فلسطين/ صارت تسمى فلسطين».

ويبقى أنّ مشروع درويش الشعري تراجيدي في الجوهر، لأنّ «وعي الفلسطيني بالتراجيديا عالٍ بدرجة تكفي لكي يتماهى مع أيّ تراجيديا منذ الإغريق وحتى الآن»، كما قال الشاعر؛ ولهذا فقد سعى إلى «إطلاق اللغة الشعرية في أفق ملحمي يكون فيه التاريخ مسرحاً لمناطق شعرية فسيحة تتسع لتجوال غير محدود للشعوب والحضارات والثقافات، ولبحث عن عناصر الهوية الذاتية ضمن اختلاط وتصادم وتعايش الهويات»، حسب تعبيره.

وفي قلب هذا الخيار المركزي، توفرت تمثيلات شتى، عالية الشعرية وبارعة الأداء، للأنماط الخمسة التي تذهب باستعارة التراب إلى مصافّ كونية وإنسانية رفيعة.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي