حديقة العصافيري 1988

2024-02-21

ثائر دوري

قال:

كان البحر هنا ……

وأشار إلى الحديقة التي كنا نقف في منتصفها تماماً، ثم أخرج من جيبه الصورة التي لا تفارقه أبداً كشاهد على صحة كلامه. كانت الصورة عبارة عن كارت بوستال قديم يمثل مطعم العصافيري القديم والممتد على شكل لسان في البحر.

تابع مشيراً للصورة:

العصافيري كان في قلب الماء، لا يشبه أبداً هذا العصافيري الجاف. وكانت المنطقة مختلفة ببشرها ومقاهيها، ثم أتوا كالوحوش والتهموا كل شيء. قالوا إنهم سيبنون مرفأً جديداً، فدمروا كل شيء. أي بشر هؤلاء؟ ثم كيف يجرؤون على مهاجمة البحر؟ ألا يعرفون ما هو البحر؟!

زق بابور الكاز فهدرت ناره، وصاح:

قهوة ، شاي ، ميلو ……

ثم مشى في اتجاه عاشقين متلاصقين على المقعد الخشبي في زاوية من زوايا الحديقة وصاح أمامهما. كانت دعوة صريحة كي يشتريا. استشار الفتى فتاته. لقد غمزت السنارة وأتى الرزق. كرر النداء من جديد كي يحسم ترددهما ثم عاد إلى مكانه، فتبعه الشاب وطلب فنجاني قهوة بسكر قليل. قال له:

على رأسي من فوق.

زق بابور الكاز فهدر من جديد، و بدأ يعد القهوة. قال متابعاً حديثه:

البحر كالإنسان لا ينسى أبداً، وينتقم. وهذا البحر سينتقم إن عاجلاً أم آجلاً مما فعلوه به. البحر كالبشر يفرح ويضحك ويبكي. البحر فاكهة الله ومن اعتدى على فاكهة الله فقد اعتدى على الله، والله يمهل ولا يهمل.

ذهب بالقهوة إلى العاشقين ثم عاد. سألته:

-أين تسكن؟

أجابني:

بلاد الله واسعة. لله الأرض والسماء والبحر، وأنا أسكن في ملكوت الله.

نهاراً كان يحدثني عن البحر وليلاً ينظر إلى السماء ويحدثني عن القمر. يقول:

الناس ينظرون إلى الأمام والخلف، إلى النساء والبنايات والسيارات، لكن لا أحداً منهم ينظر إلى السماء والقمر. أنا لا أنظر إلا إلى السماء والقمر والبحر.

ونصحني أن أنظر إلى السماء والبحر دائماً حيث لا ينكسر البصر بالبنايات والخرابات.

انتهى الشاب وفتاته من احتساء القهوة، فذهب ليحاسبهم ويُحضر فناجي القهوة، ثم عاد ليقول إنه يمر باكراً كل صباح قرب البحر ليطمئن عليه.

يناديني يوسف الذي لم يتجاوز عمره عشر سنوات. أحضره والده منذ الرابعة صباحاً في يوم عطلته المدرسية، الجمعة، كي يبيع المرطبات للرحلات المدرسية التي تصل باكراً. الوقت ربيع والناس تأتي إلى البحر. يناديني كي أشاهد سرب عصافير الدوري الذي اجتمع على كوز ذرة مرمي وسط الشارع، يحط لينقر، ثم يرتفع من جديد. قال يوسف همساً مشيراً لبائع القهوة:

لقد تركته زوجته وهربت مع رجل آخر.

مرت سيارة مسرعة فطار سرب العصافير، ولم يعد يجرؤ على النزول. يحاول يوسف استعادتها عبر التلويح بكوز الذرة، ثم يفرط حباته وينثرها على الرصيف، ويصيح براكب دراجة أن يبتعد كي تحط العصافير، لكن لا فائدة. فيلعن السيارات ثم ينشغل ببيع الزبائن.

أعود لبائع القهوة فيحدثني عن الملائكة. قال إنهم لا يأكلون ولا يشربون، بل يأخذون نشيقاً وزفيراً ويقفون حراساً على باب مملكة الرب. وذات يوم قالوا للرب: يا رب نحن نحمل العرش، فضحك الرب وقال لهم انظروا تحت أقدامكم، فنظروا، فلم يروا تحتهم إلا الفراغ، فسجدوا إلا إبليس.

اقترب عجوز يسحب خطواته سحباً ويدق الأرض بعصاه. لقد أصيب شقه الأيمن بالفالج. صاح:

أعطونا الله يعطيكم.. ليرة الله يعطيكم.

أخرج خمس ليرات من جيبي وأناوله إياها، فيدعو الله أن يوفقني وأن لا يوفق زوجته وأولاده.

يشير يوسف إلى العاهرة المسنة الجالسة على المقعد الخشبي وحيدة تحيك الصوف رغم أننا مقبلون على الصيف. يقول يوسف:

إذا أعجبتها لا تأخذ منك نقوداً.

هذه الحديقة بيتها، فلا بيت لها. محظوظة عندما تلتقط زبوناً. قال يوسف إنها منذ ساعة تحاول مع المجند الجالس قبالتها، ويردف أن لا فائدة من المجندين. يأتون لهذه الحديقة ليستريحوا فقط. لا يشترون شيئاً. المجند لا يستجيب لها، ولا يترك مقعده مما يترك الباب مفتوحا لمحاولاتها. وأخيراً تترك صوفها على المقعد وتذهب نحوه. يدور بينهما حديث سريع، ثم تعود خائبة، وأسمعها تلعن هذا الزمان وتتحسر على أيام مضت.

عاد يحدثني عن القمر لأن المساء قد اقترب. هو دائماً هكذا في النهار يتحدث عن البحر وفي الليل عن القمر.

اللاذقية 1988م

كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي