«النأي في اتجاه الموانئ»

2024-02-16

هاشم شفيق

أذكر منذ بداياتي الأولى في مطلع السبعينيات، وانخراطي في الثقافة العراقية، كنت شغوفاً بمتابعة الشعر العالمي، وكان هذا الشغف يتم في تساوق تام مع متابعتي للشعر العراقي والعربي.

إذن منذ تلك البدايات التأسيسية الأولى لتوجهي الثقافي عنيت بالآخر، ثقافة ورؤية

وتطلعاً وفضولاً وشغفاً في اكتشاف التصورات والتحولات الجمالية لدى الآخر، على صعيد السياق الفني واللغوي، والأداء التعبيري المعني بنقل الأحاسيس والمشاعر والتوتّرات الداخلية، تلك التي تمور في الأعماق وتعتمل في الباطن، لتكون رؤىً تنتجها التجارب الغَيرية، عبر مخيّلتها الشعرية والفنية، فضلاً عن سبر عوالم وأجواء الحداثة الغربية، قدر الإمكانات المتاحة وقتذاك، من أجل السعي حثيثاً على استشراف آفاقها الرؤيوية، تلك الآفاق المتسمة بالنقلات الجوهرية في الثقافة الغربية، الثقافة التي أظهرت الأجيال والمدارس والتيّارات، هذه التي أفضت بدورها إلى ابتكار الرؤى والأساليب والطرائق، والسبل الفنية الحديثة، ما أدى إلى أن تسِم قرناً كاملاً بوسائلها الإبداعية، وتصوُّراتها المعرفية الجديدة، المنبثقة من قلب الحداثة.

حين أقمت في العاصمة البريطانية لندن، وهي إقامة سيمضي عليها ثلاثون عاماً، صرت أعود إلى هؤلاء الأشقّاء الجماليّين على نحو مباشر، متحسّساً الطريق، بأناة وتؤدة عبر اللغة الإنكليزية، كنت مؤتنساً بهذه الرفقة الأنيسة، لكأني كنت أجوس في غابة فاتنة، تمدُّني بآلاف الصور والمشاهدات، والتأمُّلات المفعمة بضوء الأسرار، ووهج المعاني، وبريق الرؤى، ورعود المخيّلات التي تهزّ أوراقَ وغصونَ وجذورَ هذه الغابة الضاربة في عمق الحياة والكون، وهنا ستكتشف في هذه الغابة الخيالية عمق قرينك ورديفك، إنه عمق روحي، عمق صنوك، إنه العمق البشري للآخر، الفنان البعيد، والغامض، لكنه في الآن عينه القريب والواضح، المُشْبَع بالسرّ والضوء والحكمة، والمثال، هذا الذي يكتب مثلك ويذوب ويحترق مثلك، والذي يعاني ويتخيَّل ويحلم بالتغيير مثلك، يحلم بالحرية وينافح من أجل السلم والعدالة، ومن أجل عالم خال من الشرور، والحروب، والقتل، والدم المسفوح للإنسانية، ينافح من أجل جمال الحياة، وإطالة أمد اللحظة الفاتنة، في مسيرة البشرية. تحت أفق هذه الرؤيا، ليس ثمة عنوان، أو تسمية تليق بهذا العمل الرؤيوي، وهذه النصوص الشعرية الفريدة، سوى اسم « النأي في اتجاه الموانئ». وهنا أجدني أستعير مقطع إحدى قصائد الشاعر البريطاني الكبير تشارلس كوزلي، ليكون دليلي في هذا السِّفْر العظيم، نحو عوالم مبهمة ومجهولة، نحو موانئ مأهولة بالسحر والكشف والدهشة الباهرة، لما تنطوي عليه الموانئ من باطن جمالي موّار بالمكنونات الغامضة، والمثيرة للخيال والرؤيا، والمحفّزة للمشاعر والأحاسيس والجوانيّات، وللأعماق والدواخل الشاعرية، للفنان والشاعر والمتأمّل، ذلك الباطن الحافل بالكنوز الصغيرة، الكنوز المدفونة قرب الشغاف، وقرب منابع الرؤى والأخيلة السابحة في أفق التأملات الوجودية، وقرب التردّدات والتراجيع والأصداء، النابعة من الروح الهائمة، في فلك الشعر والسحر والفنون، وفي مدارات الإبداع المجترح للعوالم، والخلق الصانع للهالات الجوانيّة، الهرمسيّة، والابتكار المفعم بالدوال والإشارات، والمترع بالحِكَم السابرة للأغوار النفسية العميقة للكائن، حيثما كان ووجد وعاش، فالشعر فن مخترق للأزمان والدهور والأمكنة.

تضم هذه الأنطولوجيا الشعرية، بين دفّتيها شعراءَ كباراً، بعضهم نال نوبل كميووش ونيرودا وإكتافيو باث وهارولد بنتر وكوازيمودو، فضلاً عن شعراء عظام يستحقون أكثر من نوبل كيانيس ريتسوس، وريلكة، وأونغاريتي، وخمينيث، وكفافي، وآنّا أخمتوفا، وروزيه فيتش، وبوكوفسكي، وجاك بريفير، وهولوب، وديغي، وبرغر الألماني، والسويدي الرائع الذي نال نوبل مؤخراً توماس ترانسترومر، إضافة إلى كوكبة أخرى لامعة، بزغتْ تتجوَّل في هذه الموانئ الخيالية، حيث الإبحار نحو الكوامن العميقة، الراسبة في قاع الحياة، والغائصة بعيداً في أعماق الكائنات الوجودية، والطبائع البشرية.

بحّار

ألينور فارجون

آيتي وقلبي

هذا البحّار الذي أبحر في البحر،

وحين عاد إلى البلاد

جلب اليّ الهدايا:

مُرجاناً من الصين،

حريراً من سيام،

ببغاءً ولآلئ من سيرينجاباتم،

فضّة من المكسيك،

ذهباً من بيرو،

ريشاً هنديّاً من كلامازو،

عطوراً من سومطره،

عباءاتٍ من إسبانيا،

فلّينات صيّادين من عمق البحر،

أيائلَ من شمال السويد والنرويج،

بطَّاتٍ من بومباي،

وحيد القرن

من بلدة كاثيّ/

تُرى

ألمْ يكن محظوظاً

أيّ امرئ

أنْ يتزوّجَ هذا البحّار المُبحرَ

في عرض البحر؟

المنزل الريفي

ألينور فارجون

عندما أعيش

في منزل ريفيّ سأقتني:

كلبين مختلفينِ،

ثلاثَ بقراتٍ من اللون الكريمي،

خمسةَ أباريقَ للسقاية،

ستَّ ملاعقَ فضّيَّة،

سبعةً من بيوت النحل،

ثماني شجراتٍ قديمة للتفاح،

تسعاً من شُجيراتِ الورد،

عشرةً من أباريق الشاي،

إحدى عشرةَ دجاجةً تقوقئ،

اثنتي عشرةَ هُريرةً

صغيراتٍ لعوباتٍ

وصغيرتهنَّ مُنعّمة في سلَّة،

ذلك ما سأفعله عندما

أعيشُ في منزلٍ ريفيّ.

بطء

جيمس ريفز

ببطءٍ

يزحف التيّارُ فوق الرملِ،

ببطءٍ

تعبرُ الظلال الأرضَ،

ببطءٍ

يسحبُ حصانُ العربة مسافته،

ببطءٍ

يعدُّ الشيخُ سنواتِه القليلة،

ببطء

تتحرّك اليدان حول الساعة،

هذا البُطء

يشبه بُطء الحلزون الزاحف غرباً،

تجاه الطحالب الخضراء المنفصلة

عن الحائط القرميديّ القديم.

الشيء الصغير الراكض

جيمس ريفز

تطيرُ

في هذا الشارع الصغير

تلك الأرياش الجميلة ـ الجديدة،

تركضُ

وتُسرعُ تجاه القبعاتِ البديعة،

من أجل سيدة شقراء تركضُ

وتدورُ وتقفزُ في الهواء،

تطيرُ في هذا الشارع الصغير،

تطيرُ حول شريطٍ

من حريرٍ أبيض،

حول شريطٍ حريريٍّ أسودَ لقطّةٍ،

تهفو من أجل امرأة السيّد المتحفِّظ،

تطيرُ

وتستديرُ

وتلتفُّ

ومن ثمّ تعاود الطيران

من أجل حياتك.

المكتشفون

جيمس ريفز

الفراشةُ المخمليّةُ

اكتشفت الليلَ،

السمكةُ اكتشفت

المدنَ الغرقى،

والخُلدُ والديدانُ والنمالُ

اكتشفوا العديدَ من الخزائن

تحت الأرضِ،

القبّرة المُحلّقة

اكتشفت السماءَ،

نوارسُ البحرِ

اكتشفت العواصفَ البحريّة،

بينما السّنجابُ النشيطُ

ينقّبُ في أعالي الشّجرْ.

من كتاب سيصدر قريباً بعنوان «النأي في اتجاه الموانئ»








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي