«كورونا» في الشعر العراقي الحديث!

2024-01-10

علي الطائي

منذُ فجرِ البشرية، رافق الداءُ الجسدَ البشري والحيواني، بل والنباتي على السواء، الذي بسبب فتكهِ ولؤمهِ في قتل البشر والحيوانِ والشجر، عُزيَ أمرهُ إلى قوةٍ ما ورائية، هي يدُ الآلهة، وغريزة القتل عند بعض هؤلاء. ولشدةِ الجهلِ الذي كان يتميزُ به الإنسانُ القديم، والبدائيةِ التي صبغت سلوكه، وطريقة عيشه، وعدم القدرة على فك أسرار الأمراض في حينهِ، لجأ إلى خيالهِ، ووجد فيه الملجأ الآمنَ لكل أمانيهِ وآمالهِ، هذا الالتجاءُ لم يكن اختيارياً، بل كان من بابِ (خذ أرنباً على أي حال). وقد فتكت الأوبئةُ ببني البشر، وأبادتْ الملايينَ، وخلفتْ أرضاً يباباً، ومن الطبيعيّ أن تخلّفَ غصّةً في نفوسِ الناجينَ، كما خلفتْ فينا هذه الأيام، وهي الفترةُ التي قضينا أشدَّ سنينَ الخوفِ والترقبِ فيها، الفترةُ التي امتدت سنواتٍ عدة، عاث فينا وباءُ (كورونا) ولم ينصف. ورغمَ ما كان يحدثُ من أوبئةٍ، من جدري وطاعونٍ وغيرها، وكان يضربُ البشرية كل عامين أو ثلاثة أعوام (كما اطلعتُ عليه في بعض الكتب) لم يصلنا من تراثنا الأدبيّ، خاصة الشعر العربي، الذي صوَّرَ الحوادثَ هذه، إلا القليل.

دخلَ الشعراءُ هذا المضمارُ، وتبارى العشراتُ منهم، من أجلِ توثيقِ هذا الحدث التاريخي الطبي المهم، ومات عددٌ منهم بعد كتابتهِ لقصيدتهِ، أو نصهِ النثري، فماتَ الأملُ الذي لاحَ في بطونِ كلماته. كتبَ الشعراءُ قصائدهم، ونثروا نصوصهم هنا وهناك، وهم يُدخلونَ مفردةً جديدةً إلى معجمهم الأدبي: (كورونا، كورون، كرون) وما شابه ذلك. إذن هي انتقالٌ ومنعطفٌ جديد في سبيل الإبداعِ الأدبي.

كتبَ الشعراءُ ضروباً من القصائد، منها ما كان علميا (الشعر التعليمي أو العلمي) ومنها ما كانَ وجدانيا ضَمَّنَ فيه مشاعرَه وطربَهُ وحزنَهُ جرّاء فقد الأحبة والأصدقاء. أبدعَ عددٌ منهم في هذا الجانبِ، وأخفقَ آخرون. وبين الجدِّ والهفوةِ، والإقدامِ والكبوة، والدعةِ، وُلِد هذا اللون الجديد (أدب كورونا)..

قال الفيلسوف اليوناني أبيقور (Epicurus): (يُمكن للإنسان أن يكونَ في مأمنٍ من كلّ شيءٍ سوى الوباء، فأمامه يعيش كلّ البشر في مدينة لا أسوار لها). وهذا ما عايشناهُ، ولم يكن لنا أيُ فعلٍ تجاهَ هذا الماردِ القاطعِ لسلسة القدرِ، والمتمردِ على نواميس الأربابِ والبشر.

وفي عنوان صدر عن مؤسسة دار الصادق الثقافية كتاب «في مرمى الجائحة – تمثيلات الكورونا في الشعر العراقي المعاصر) في 177 صفحة، يرصد المؤلف من خلاله ما كتبه الشعراء العراقيون في موضوع الجائحة، عبر صفحاتهم الافتراضية على وسائل التواصل الاجتماعي؛ بسبب التباعد الاجتماعي لتفشّي الجائحة حينها، بما جعل تلك المنصات الافتراضية متنفسا وحيدا للشعراء من خلاله يُطلّون على العالم، وقد جمع المؤلف نصوصا شعرية قيلت في ظروف هذه الجائحة مستعرضا لها في القسم الأخير من كتابه بعد أن عرض إلى بعضها عن طريق قراءته النقدية الخاطفة، وكاشفا عن أبرز المهيمنات الأسلوبية التي استعان بها الشعراء من أجل تصوير هذا الحدث التراجيدي الشامل. وقد اكتفى بالشعراء العراقيين.

لم يصدر أي كتاب في ما سبق، تناول ما قيل من شعر عن جائحة، فضلا عن الدراسة النقدية التي اشتمل عليها. هذا الكتابُ جاءَ ليؤرخَ أحداث البشر في زمن (كورونا) وينقل- من خلال الشعر- للأجيالِ اللاحقة، الأحداثَ، ويوثق المأساة، ويرسم صورة ما جرى في عصر هذا الوباءِ الذي جاءَ نتيجةً لرعونة البشر وعبثه، وتماديه في طغيانه وفساده. بدأ الوباءُ في مدينة (ووهان) الصينية، وتم احتواؤه في فترة قياسية، ومن ثم ظهوره في بلدان العالم الأخرى ولم يستثن بلدا. سرقَ أرواحَ الملايين من البشر، وقتل يوميا آلاف الناس. وأصاب الاقتصادَ العالمي بالشلل. وقد أصاب من العراق مقتلةً عظيمةً، عشرات الألوف.

الشعرُ، ذلك النوع الأدبي الخالد، الذي كان الاعتمادُ عليه في العصور التي سبقت التدوين، سجلاً محفوظاً في صدور الحُفَّاظ. ومن خلالِ عتبةِ العنوان، «في مرمى الجائحة» أوحى لنا الكاتبُ المرمى من هذا (المرمى) وكأنه يستعيرُ هذا المعنى فيضع كل البشر في مدى رمية هذا الوباء. وكأن هذا المرض يصوِّبُ بعد أن ينتقي ضحاياه، ثم يرمي بسهام الموت على كل من كان في مرماه. فجاء الشعرُ يصور هذا الحدث بشتى الصور الشعرية.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي