اِغْتِيَالُ أَشْجَارِ غَزَّة

2023-12-18

من الدمار الذي يتسبب فيه العدوان الإسرائيلي على غزة (أ ف ب)

صالح لبريني

أمام فظاعة مشاهد الموت وبحار الدم المهرق على أرض غزّة؛ والدمار والخراب الذي يعمّ كل شيء، يقف العقل عاجزا عن فهم واستيعاب ما يجري في ظلّ الصمت العربي المتخاذل والمهزوم، والتكالب الغربي عندما تمسّ مصالحه ويشعر بتهديد وجوده في جغرافيات الكرة الأرضية، هذا العجز للعقل ناجم عن الوحشية الصهيونية في حق شعب أعزل مدجّج بِحُبّ الأرض والوطن، طافح بإرادة البقاء والاستمرارية رغم الجراح والترهيب والتقتيل والتدمير، وكلّ الممارسات اللاإنسانية التي وصلت مبلغ الحيوانية والتغوّل الجنوني، فما يقوم به الجيش الصهيوني من أعمال الإرهاب، ودكّ المنازل على رؤوس المواطنين الفلسطينيين، والعمل على تعطيل الحياة في غزة فُرْقَانٌ على العنجهية والعجرفة الصهيونية والفكر الغابوي، الذي يتحكم في ممارساته وأفعاله الإجرامية، لأن الوضع الإنساني في قطاع غزّة ينذر بكارثة إنسانية إذا ظلّ عدوان الاحتلال الصهيوني الهمجي على هذا الإيقاع الرهيب، فالوحشية مرآة على أن العقيدة الصهيونية عقيدة دموية تؤمن بالأساطير والخرافات التلمودية والأباطيل والخزعبلات المرتبطة بكونهم الشعب المختار، والعرق الآري الذي لا عرق يماثله. ومن ثم فالفكر الأسطوري يشكّل لدى الصهاينة إطارا مرجعيا يصرفونه ضد المدنيين من أطفال وشيوخ ونساء لا يملكون إلا قلوبهم وروحهم، التي نذروها من أجل بيت المقدس وغزّة وكل الأراضي الفلسطينية المخضبة بدماء الشهداء والأبرياء.

٭ ٭ ٭

إن الكيان الصهيوني لا يدّخر جهدا بإيعاز من الولايات المتحدة الأمريكية على خرْق الأعراف والقوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة، والسعي إلى نهج سياسة الأرض المحروقة، التي تطبّقها على الشعب الفلسطيني في غزة، فالجنون المرَضي وعماء البصيرة يزيد من ضبابية الرؤية للأمور وقراءتها المبتورة وفق تصور أساسه التفوق العسكري، وما يمتلكه من ترسانة حربية توهمه بأن حليفه الانتصار، فتجاور العقيدة الدموية وعقلية رعاة البقر يفضي إلى الكوارث والمآسي، فالأولى اغتصبت أرض فلسطين دون حق، ومارست كل أشكال التقتيل والتهجير، والتهمت الأرض الفلسطينية ودنّست المقدسات وما تزال، والثانية اللصوصية والقتل والتخريب هويتها وديدنها، وما أحدثته من دمار وفوضى في كلّ بقاع الأرض وأمصارها من إبادة الهنود الحمر السكان الأمريكيين الأصليين مرورا بأفغانستان والعراق ووصولا إلى سوريا، يكشف عن حقيقة العقلية الغربية، هذه العقلية، ذات الأساس العقدي، جوهرها التغوّل والاستبداد بعيدا عن الشعارات الفضفاضة والمناقضة للأعراف الإنسانية وأخلاقها ومواثيقها. ويجب أن نعي جيّدا أن إسرائيل هي أمريكا، بعبارة أخرى إن إسرائيل ربيبة أمريكا المتصهينة؛ لهذا لا نستغرب من التأييد والمباركة من لدن أمريكا بايدن لإسرائيل نتنياهو، بل إن الرؤساء الأمريكيين – على مرّ التاريخ- لعبوا أدوارا خسيسة ودنيئة في زرع إسرائيل الصهيونية وَرَماً في جسد المنطقة «العربية» لتظلّ بؤرة صراع وحروب أبديين، حيث لا استقرار ولا أمن ولا حلّ الدولتين، لأن حلّ القضية الفلسطينية إعلان لنهاية أمريكا وربيبتها المدللة. ورغم مظاهر التفوّق العسكري براً وبحراً وجواً، لم يستطع الصهاينة وحكوماتهم تاريخيا اجتثات أصحاب الأرض.

لكن حرب7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 الذي حلحل الوضع في المنطقة، بل العالم بأسره، وأبانت عن كون المقاومة تمتلك شروط المواجهة مع أعتد وأقوى جيش كما صنعته الآلة الإعلامية بترسانتها العديدة والمختلفة، وقد أثار هجوم المقاومة الفلسطينية على دولة الاحتلال الكثير من التساؤلات حول هذه الخطوة الجبّارة، وستغيّر أيضا موازين القوى والخرائط والتوجهات السياسية العالمية. ولا بد من الإشارة إلى أن هذا الهجوم كانت نتيجة طبيعية للخروقات والاعتداءات التي ترتكبها قوات الاحتلال الصهيوني في حق الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية، إضافة إلى الحصار الجائر على قطاع غزة، حيث تتعمّد دولة الكيان الصهيوني على تشديد الخناق على غزة والممارسات الشنيعة على أهلها من لدن الجيش الصهيوني، فجعل القطاع في وضع مأساوي يفرض القيام بطوفان الأقصى، الذي كان مفاجئا وغير منتظر، ليعلن الكيان الحرب على القطاع، فشرعت الآلة الصهيونية في اغتيال أشجار وأحجار وسكان غزة، مقترفة أكبر إبادة في حق شعب أعزل، لا يملك سوى إيمانه القوي بأرضه وحقّه التاريخي والوجودي.

٭ ٭ ٭

إن غزة هذه المدينة التاريخية، جيناتُها كنعانية وفينيقية، تأبى الانحناء والخنوع للصهاينة، فصيلة دمها تكتب تاريخ وجودها في جغرافيا منذورة للقلاقل والصراعات والحروب، ومع ذلك ظلت هذه البقعة/ فلذة كبد بلاد الشام صامدة ومقاومة لكل المخططات الجهنمية للإمبريالية الرأسمالية المتوحشة، متحدّية متاريس الاستبداد الغربي، وظلم ذوي القربى؛ لتؤكّد أنها باقية أبدية على أرض الأجداد والأسلاف، لا تخشى فراعنة الألفية الثالثة وزبانيتهم من عرب اليعارب المنبطحين، المهرولين، الخاضعين الخانعين لسلطة أسيادهم الغربيين، الذين يحرسون كراسيهم المهترئة، ويبتزون ويستنزفون خيرات بلدانهم، وهم عاجزون عن قول الحق وإعلاء كلمة الفصل، لكن الدوائر ستدور عليهم، ويصبحون تحت كرباج استعمارات جديدة تهندسها أمريكا والصهاينة بعقلية رعاة البقر. فأمة العرب لم تستفد من دروس العراق وسوريا وليبيا، التي ساهموا فيها بأموالهم وعتادهم وتواطؤهم على تحويل هذه البلدان إلى بؤر للإرهاب، الذي هو صناعة غربية بامتياز، وللدمار والخراب. ولن تستفيد لأن كراسي حكمهم مهدّدة بالزوال والامّحاق بأرَضة العدو في القادم من الزمن لتغدو في خبر النسيان، وما المخططات التي تمّ فضحها للمشروع الصهيوني إلا دليلٌ واضح لتحويلها إلى كانتونات جوهرها الصراعات المذهبية وخاضعة لسلطة الصهاينة ولإمرتهم.

٭ ٭ ٭

غزّة الفنيق الذي سينبعث من رماده، متحدّياً صولة الخراب والدمار، لتعلن الربيع المنتظر، وتزفّ الخبر اليقين، بأن ربّ الأرض هو المنتصر في النهاية ولو كره أعداء الحياة والشعوب التي تهفو إلى التحرّر من أصفاد الاستعمار والظلم والاستبداد، ومعانقة رائحة التراب، ولهفة الجدران لأيادي أهاليها الذين بصموها بعرق سواعدهم وجباههم، المؤمنين بأن مالك الملكوت هو حارس تاريخهم وحضارتهم، رغم كيد الصهاينة وعنجهيتهم العمياء، تجبّرهم وعتوّهم، سينهار زيف أساطيرهم وسردياتهم التي انكشفت لشعوب العالَم المنتصرَة للحق وللإنسان.

غزة التي تطهّر الأرض بدماء الشهداء تروي رمالها وبيوتها وأمدائها بالحكايات والأماسي المترعة بالجرح والأمل في الآن ذاته، تكتب ميلاد وجودها الأبدي بحبر المقاومة والصمود، ترسم طريق النصر بعقيدة الإيمان والصبر، وتعلّم الأنفة والعزّة للعرب الموتى، ستولد من رحم الأنقاض شفّافة، ناصعة المحيا، أُمَّةً بكاملها وإبائها، بفواكهها التي تسري نكهة ولذاذة في ألسن العالَم، وتشتعل ناراً تأتي على عاتٍ جبّارٍ، لا تخاف لومة متخاذل وعميل ومتصهين، تشق دروب الكرامة بأمل كبير، وبشموس تضيء عتمات الشعوب المظلومة والمقهورة، وتشيّد حضارة عمادها الإرادة، فهي الآن تدرّس للعالَم بأسره دروس الحياة، وتقوّض السرديات الصهيونية بسلاح التحدّي والإصرار، وعدم الخضوع لسلطة التهويد، التي تعمل جاهدة على طمس الهوية لفلسطينية، بكل ما ملكت وتملك من ترسانة عسكرية وإعلامية واقتصادية، لكن غزة غدَتْ الشوكة التي علقت في بلعوم بني صهيون.

٭ ٭ ٭

غزة السابع من أكتوبر ملحمة الألفية الثالثة، التي لن تمحى من الذاكرة الإنسانية ولن تنساها الأجيال التي تعايشتها والأجيال القادمة، ملحمة أبطالها من دم وتراب أرض المقدس، ومسرحها ما بعد غلاف غزّة، حيث الصهاينة تغوّلوا بالحصار والتجويع، بالقتل والتدمير، بكل الوسائل الدنيئة والخبيثة. فصدمة أكتوبر ستغدو عقدة المحتل الصهيوني، والصفعة التي دحضت أكذوبة جيشه الذي لا يقهر، وأدت إلى قلب موازين القوة وزعزعة اليقينيات الصهيونية والغربية، وعرّت الوجه الحقيقي للحضارة الغربية، هذه الحضارة التي تعشق الدماء وتتفنّن في التنكيل بالشعوب، باسم العقلانية وحقوق الإنسان والديمقراطية والشعارات المزيفة لاستنزاف خيراتها ونهبها، فغزّة فضحت بؤس العقل الغربي، عقلٌ غابوي في جوهره وأصله، عقلٌ دمويّ تخريبيّ إرهابيّ، عقلٌ شيزوفرينيّ وساديّ، عقلٌ مجنون ومعتوه، عقلٌ خارج التمدّن والتحضّر، عقلٌ حيوانيّ مسرف في الغباء والعماء. غزة رغم هذه الأسلحة الفتّاكة التي تنزل مدرارا على أرضك، وتجرّب عليها، هي إدانة للعقلانية الغربية، ولعنة أبدية ستلاحق الصهاينة وعملاءها وخدامها، ومهما طال ظلم المتجبرين سيأتي يوم عليهم وبالاً سيجرفهم إلى هاوية الجحيم. غزّة أرادوا اغتيال أشجارك، نخيلك، زيتونك، رمّانك، ليمونك، وجودك؛ ولم يدروا أن الجذور عميقة الغور في أرض كنعان، في بيت المقدس، راسخة وممتدة في تاريخ وجغرافيا الأرض المقدّسة، وتناسوا أنها الهوية والتاريخ والعقيدة والحضارة.

طرسٌ آخرُ

( غزّة / يا ضوءَ البيتِ أسمّيك/ وكلّ الأسماء أنتِ/ رتّلي نشيد كنعان أسطورة البَرْق/ انثري أنقاضكِ سنابل تروي جوعى الأمل/ واكنسي رماد البارحة كي تشهدي/ أنّ النخيلَ آيةٌ/ والتّراب دمٌ يُشعلُ الفرحَ الآتي/ ويَدِبُّ في الأوصال أبجدية أخرى/ وشجرا يتلو ما تيسّر من حفيفٍ ورفيفٍ/ أيقظي الهديل في شرفات المدى/ الصهيل على منحدرات الردى/ رتّبي مائدة للأعراس القادمة/ واشرعي أبواب اليقين على جدران تتنفّس عبقَ الأمهات وعرقَ الأنفاس/ صولة الرجال والجبال/ علّ الصبح يأتي مدجّجاً بوهج الأسلاف/ مُترعاً بلغة الماء…).

شاعر من المغرب








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي