هل نسي المحتل أنه في زنزانة كبيرة؟

2023-12-16

محمود علي

دماء تغني للأرواح الفاسدة، ونقمات تتقلب تحت الخرائب والأنقاض، وأطفال كالفراشات يحلقون إلى السماء، وصبية يلعبون لعبة الغميضة من يذهب منهم لا يعود. ماذا نرى في غزة المنتصرة في أنفسنا المخذولة في عالم متوحش؟ فليسقط العالم إذن ولتذهب كل الأسئلة الوجودية إلى قعر الأرض، فلم يعد هناك سؤال يستحق التفكير. «هذه أرضنا» هكذا يصرخ الفلسطيني منذ أكثر من خمسة وسبعين عاما، لكن لا صدى؛ فجدران العالم مثقوبة برصاصة العنصرية والكراهية. كم تكررت المأساة وتكرر الخذلان معها، والعدو ما يزال يسكن في أوهامه المزعومة، في جغرافيا سئمت وتقيأت كل الأكاذيب المرسومة على وجهها. هل قدر الفلسطيني أبدي؟ وهل نسي قضيته؟ لا لم ينس، كيف ينسى وهو يشم تراب أرضه كل يوم، يرى نبات وأشجار أرضه صباح مساء. تحكي له جداته حكايا الأرض وتخبره عن الدروب التي لو تاه تعيده إلى أرضه وهو مطمئن، تخبره أن جذره إله في أرض فلسطين فمن سيقتلعه؟

منذ بداية الأحداث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول وأنا أخشى على نفسي أن تسقط مع أوراق الخريف، فالمشهد فوق الحديث والكتابة والشعر. مشهد مهيب لا يعلى عليه؛ فرح وحزن ممتزجان، ألم من كل شيء في عالم أصبح مخيفا مرعبا، اختلت النفوس وظهرت الأنياب الخفية وتعرت الوجوه وغُربلت الأنفس اللئيمة، وصدمات تتلو صدمات، أما الفرح فهو فرح الشعور بالكرامة، انهدام جدران الوهم والقوة التي لا تقهر، فرح أن المحاصِر أصبح يحاصر حصاره، ولا صوت يعلو فوق صوت الأحرار، أحرار الداخل والخارج.

في كل الأدبيات النضالية، يعي المناضل أن المحتل هالك ومغادر لا محالة، طال الزمان أم قصر، حتى إن كنا محاصرين بأنظمة تقليدية مستهلكة عفا عليها الزمن، ترى نفسها حكمت العالم وهي أدنى من ذلك بكثير، أنظمة تخشى الحرية ولا تسعى أن تحرر شعوبها وكأنها فوق الزمان والمكان. فإن كان الكرسي هو الأهم، فالبلاد بلادنا جميعا، والحكام العرب لم يأتوا من طينة نقية خالصة خاصة، فمن الذي منحهم الحق ليحاصروا شعوبهم؟

رغم وعينا البسيط في الطفولة ونحن نسمع أن فلسطين مغتصبة من الكيان الصهيوني، لقد تفتحت أذهاننا منذ أن رضعنا من حكايا الأمهات والجدات إن فلسطين هي أرض الأحرار، وأن الفلسطينيين ظُلموا لكنهم قاوموا، وخذلوا لكنهم صبروا، وتيقنا أن المحتل سيأفل نجمه ويغادر وستبقى الدار لأهلها، وإن كل دماء الشهداء تسقي الأرض فتتبدد الأصفاد، لقد تعلمنا من أمهاتنا أن الكرامة لأرض الشهداء، كما تعلمنا منذ طفولتنا إننا نحن من نحتاج وقفتهم معنا لأننا نمتد من معنوياتهم العزة والكفاح، لقد تعلمنا أن قضية فلسطين هي قضية الوجود وبانفكاك أزمتها سيأتي يوم الميعاد، تعلمنا أن أولئك المرابطين يُهَونون الخطوب، وإن كانت للحياة معنى، فإن الموت له معنى آخر لهدف أسمى، ومع مرور الزمن تشربنا معرفة كافية نستطيع من خلالها فهم بقية التفاصيل الاستعمارية، بل نستطيع أن نصرخ أن فلسطين قضية عادلة، فلسطين للفلسطينيين بمختلف أطيافهم.

«إن كان جذعي للفؤوس ضحية

جذري إله في الثرى يتأهب»

هكذا صرخ الشاعر العربي الفلسطيني سميح القاسم، كما خاطب المحتل في خضم النضال: «ومن زنزاتي الصغيرة أنظر إلى زنزانتك الكبيرة». فلنكرر الصرخات في وجه الأنفس القبيحة، ونذكر المحتل بكل السبل أن سجنه أكبر، فلا عزاء لكل من شارك في الجريمة، وصمت في هذه الكارثة الإنسانية، ولنقل للكيان المحتل: مهما أوغلت في القتل، سنذكرك بأن «حبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل» .

كاتب من سلطنة عمان








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي