كتاباتٌ على هامش السجلّ المدني

2023-11-27

الدمار الذي ألحقه الكيان الصهيوني بغزة (أ ف ب)

ساري موسى

عائلةُ "ناجي وحيد"

عشراتٌ من عائلات قطاع غزّة "مُحيت من السجلّ المدني"، أي أُبيدت بشكل كامل وقُتل جميع أفرادها. وهناك عائلات أُخرى لم تُمحَ من السجلّ لنجاة فرد واحد منها، هو في الغالب الأصغر بينهم. حيث بَنَتْ له يدُ اللهِ، على عَجَل، خيمةً من حجرتين من حجارةِ الحائطِ المُنهار، ظلَّ آوياً في جوفها الآمن إلى أن وصلت إليه أيدي رجال الإنقاذ، لتَلِدَه ولادةً ثانية.

قرأنا أسماء العديد من الناجين الوحيدين الصغار، وأَسِفنا لحالهم، متخيّلِين المصير الذي ينتظرهم، إذا ما كُتِبَ لهم الاستمرارُ في النجاة، قبل أن ننسى تلك الأسماء، التي نُصِرُّ على إلصاقها بمن استشهدوا ومن نجوا، كي لا يكونوا مجرّد أرقام.

يمكن لـ"ناجي وحيد" أن يكون اسماً للناجين؛ اسماً مستعاراً على الأقلّ، تسهيلاً لمهمّة التذكّر وتثبيت الهوية. تزداد أعداد حاملي هذا الاسم بازدياد أيام العدوان ووحشيّة القصف، حتى أمكننا القول إنّ حامليه باتوا يشكّلون عائلةً، عائلةً ناشئةً بدل تلك العائلات التي مُحِيت من السجلّ، عائلةً شكّلتها روابط الدم المسفوح، وذلك الذي بقي محفوظاً في أوعيته، والتي جعلت الظروف القاهرة أواصره لا تقلُّ قوّةً عن تلك التي قُطِعت.

■ ■ ■

أغانٍ تُكمَل في السماء

أمّا مصير الأطفال الذين لم ينجوا، فنعرفه من خلال غسان كنفاني. يُخبرنا الكاتب الشهيد في قصّته "البومة في غرفةٍ بعيدة"، من مجموعته "موت سرير رقم 12"، بتقليدٍ حربيّ يبدو غريباً عن حروب اليوم، لكنّه كان شائعاً في حروب الفروسية القديمة. خلال معارك صدّ العصابات الصهيونية عن مدينة حيفا، في نكبة عام 1948، كان الرجال يغنّون أغنياتٍ حماسيةٍ وهم يقاتلون ببواريد الصيد، ثم بالفؤوس بعد أن تنفد ذخيرتهم. فإمّا أن يعودوا إلى البيت وهم ما زالوا يغنّون، أو يسقطوا فوق تراب أرضهم ليُكملوا أغانيهم في السماء.

أطفال غزّة الشهداء، حالهم كحال أجدادهم، يستمرّون في ترديد أغانيهم التي قطعها القصف، بما فيها تلك التي بدون كلمات، هناك في الأعالي، حيث يسود السلام الإلهيّ، بعد أن شكّلوا جَوقَاً ملائكيّاً.

■ ■ ■

الطفلة تقاوم بفستانها

الحَدَث الذي أخرج الطفلة من روتين أيامها، وجعلها تلبس فستانها الجديد، كان الحرب. حتى لو لم نشاهد مقابلتها ذات الدقيقة الواحدة لاستطعنا تقدير عمرها. هي في حوالى الرابعة، ما دامت الحرب ما زالت تشكّل حدثاً بالنسبة إليها. في أيام "سيف القدس" لم تكن قد تجاوزت العامين، واستطاع أهلها إلهاءها بطريقة ما خلال جولَتَي القتال القصيرتين السابقتين.

تتقدّم بخجلٍ لتقفَ أمام الكاميرا، وتحكي بفرحٍ، عبر الفراغ الذي خلّفه سقوط سِنَّيْها الأماميين العُلويين، عن "فثتان فلثطين"، الذي اشترته لها ماما من "الثوق".

على قُماشة الفستان السوداء، تتداخل تطريزاتٌ رفيعةٌ من خيوطٍ حمراءَ، تُشبه تداخل الأوعية الدموية التي ما زالت تضخّ الحياة في جسد الثوب، منذ زمنٍ يفوق بأضعاف كثيرة عُمر الجسد الفرانكشتايني لكيان الاحتلال، الذي تمنعه من العودة إلى الموت الذي أتى منه الإمدادات الخارجية لخالِقِيه.

■ ■ ■

الصاروخ النائم على كنبة الدار

اخترقَ الصاروخُ السقفَ، وسقط فوق الكنبة، التي بدت مصمَّمةً خصيصاً لاستلقائه. حتى أنّهما متماثلا اللون؛ هو أبيض وهي بيضاء. لعلَّ الأغراض كلّها غدت بيضاء بفعل الغبار والرماد، لكنّ هذه تفاصيل لا تهمّ كثيراً. ما يهمّ أنّ الصاروخ بدا مندمجاً في المشهد، كأنَّ البيتَ بيته، حتى أنّنا نحتاج ثانيتين أو ثلاث لنتبيّن موقعه تماماً في غرفة الجلوس.

غنيّ عن القول إن الصاروخ، الصاروخ الإسرائيلي، لأنّه إسرائيلي، احتلّ البيت، وطرد أهله منه راسماً لهم السيناريو الثاني المُراد لهم، إن نجوا من الموت؛ هجّرهم في الشوارع إلى بيوتٍ مؤقّتةٍ ومراكزِ إيواء، تحت حمم صواريخ ماحقة، قد لا تجعل عمرهم الجديد، الذي كُتِبَ لهم لعدم انفجاره، يطول، كحال الأطفال الخدّج الذين يموتون بسبب انقطاع التيار الكهربائي عن المستشفيات، بعد ساعات قليلة من سقوطهم على هذه الأرض، التي يقتنعون سريعاً، وبوعيٍ كاملٍ، بأنّها غير صالحةٍ لحياتهم.

المراسلُ التلفزيونيّ، الحاضرةُ في ذهنه، ومن حوله، آثار استيقاظٍ جزعٍ من نومٍ هانئٍ بأحلامَ ورديّة، حدث قبل بضعة أسابيع، بدأ رسالته وهو يصعد درج البيت، ثم دخله وهو يحكي بصوتٍ هادئٍ خفيضٍ، بمراعاةٍ تامّةٍ لغفوةِ الصاروخ المُتعَب، وخوفاً من أن يأتي، إذا ما استيقظَ جَفِلاً، بردِّ فعلٍ أحمقَ، كأنّ ينفجر مثلاً، دفاعاً عن نفسه طبعاً.

كاتب من سورية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي