في رواية «الطاهي يقتل الكاتب ينتحر»: الكيتش وتشويه الذائقة

2023-11-10

فدوى العبود

يعتبر الكيتش من الموضوعات الأثيرة في التناول الأدبي والنقدي، وهو يستمد قوته لا من قصور الأدوات النقديـة للفلسفة والفن، بل من شعبيته ومغازلته للاوعي الجمعي. فهذه التسمية التي ظهرت في القاموس الألماني، والتي تحيل لجمع القمامة، أو جعل الشيء رخيصا بتقديم مالا قيمة له، لم تَعدم من يعتبرها شكلا مقبولا في الفن والأدب، على اعتبار أن مهمة الكتابة أن تعرض الحياة كما هي، وثمة من يرفضها انطلاقا من موقف معاكس؛ لكن المتفق عليه أن الأخير سلطة لا يمكن مقاومتها، وأن جذوره راسخة الوجود. فلا يمكن مقاومة جاذبية تحطيم الجمال وسحر تحويل كل قيمة إلى مسخرة. وليس أمام الفنان سوى الالتزام أو نقيضه أو بتعبير الناقد الأمريكي كليمنت جبريبنرج في مقال عام 1939، «طريقان اثنان لا ثالث لهما؛ إما الانتماء للطليعة وإما الكيتش» لكن الأخطر هو كونه خادما مجانيا ومثاليا للأنظمة القمعية، وفي هذا المجال لا بد من تفكيك سلطته بسلطة مضادة هي الوعي. فالجسد والرغبة تمثل مصدر قلق للسلطة (السياسية والدينية) باعتبار الحرية تتفتح عبر الوعي المرتبط بالجسد، وحرمان الأخير وتقييده يعني أسر الوعي، وتقويض الفردية العميقة ليتبقى هيكل الحرية الزائف (اللذة المفرغة من الروح، النجاح دون إنجاز، الحضور دون إضافة).

على طول الخط يتابع الروائي التشيكي ميلان كونديرا، فالكيتش في فلسفته يزدهر في الأنظمة الشمولية، وفي روايته «المزحة» تتحول فكاهة إلى مأساة، ويتركز الاهتمام في حفلة التفاهة على المعنى الوجودي له عبر تاريخ الجسد الجمالي، وفي عصر السرعة انتصار للتشابه على حساب التفرد والاختلاف. لكن الارتباط عند أستاذ اليأس يظل قائما بين الكيتش كسلعة تصدرها الأنظمة القمعية، ولا تغيب في هذا الإطار مسؤولية اللاوعي الجمعي الذي يساهم في إلقاء قناع من الابتذال على الواقع. بالنسبة للفيلسوف الألماني تورستن بودتز فا المتهم الرئيس في الكيتش تقوم عليه الرأسمالية وكل أيديولوجية أو تيار غالب في أي مجتمع» وفي هذا السياق فإن قدرات الكيتش عند آلان دونو في كتابه نظام التفاهة لها طابع سحري يسمح له بمد أذرعه الأخطبوطية في وقت متزامن إلى السياسة والفن والأدب والاجتماع، وكل مكان.

فأن يحكم التافهون يعني أن تعمم التفاهة، فالثمن الذي يُدفع في حال جعل التافه رمزا أقل من فاتورة الحرية التي تكلف المستبد؛ وعوضا عن محاربة صناع الكيتش يتحولون إلى رموز تتولد أسئلة مشروعة في هذا المجال، فإذا كانوا رموزا فما دورنا نحن؟ من هنا يظهر بوضوح عداء الأنظمة القمعية للفردية، ومحاربتها العقل اليقظ، القادر على كشف فظاعاتها ولعل الجانب المروع فيه: هو تعطيل الذائقة وقدرته على بلبلة الإدراك وعدم القدرة على التمييز وشرب المياه العكرة، بل تفضيلها على الماء العذب. كما يقوم الكيتش في الرواية على الانتهاك: انتهاك المشاعر الدينية أو الروحية دون اقتراح جديد، وله أيضا قيمة أخرى وهي سلطة الزائف، الجسد، الرواية، المشاعر، الربح، (الفيك) وما هو أساسي في بنيانه هو إضفاء القيمة على ما هو مزيف.

وفي سياق نقد الكيتش وتفكيكه تأتي رواية «الطاهي يقتل الكاتب ينتحر» للكاتب المصري عزت القمحاوي، ويتألف الكتاب الصادر عن الدار المصرية اللبنانية 2023. من ستة وعشرين عنوانا، تتأكد فيها سلطة الرواية بكونها حاملا سياسيا «منذ وضع جاك روسو الأساس الفكري العميق والراسخ للحقوق السياسية، ورحل قبل اندلاع الثورة بعشر سنوات. وقد رافقت أفكاره سلطة السرد في بعض المسرحيات والقصص، لكن جماهير الثورة العريضة ستحصل على خبزها الروائي في ما بعد عبر روايات ألكسندر دوما، وفيكتور هوغو وغيرهما من الفرنسيين وغير الفرنسيين، الذين اهتموا بثورة الأنوار، ومنهم الإنكليزي تشارلز ديكنز في روايته الأشهر «قصة مدينتين». بهذا المعنى كانت الثورة الفرنسية أهم لحظات تأكيد سلطة الرواية» لذلك ليس من العبث أن نعثر في الكتاب على «أحن إلى خبز أمي» أشهر جملة في الشعرية الحديثة، التي لا ينازعها في هذه المكانة سوى جملة لأمل دنقل «لا تصالح» إن السؤال عما ترومه المماثلة بين الطبخ والكتابة، هو إعادتنا إلى الوقت الذي كان فيه الإنسان يأكل الطعام النيئ، ورغم ذلك كان حرا وفطريا، مع الوقت تعلم الطهو وتذوق الطعام، وأصبح يشعل النار فارتبط ذلك بالتحضر لكنه حين ترك غيره يطبخ له أو يتلاعب به أصبح أسير ذائقة مطابخ الأكل السريع. تجسد أعمال القمحاوي في مجملها ميلا لهذه الفردية وتكشف القراءة التأويلية للجسد في كتابه «ذهب وزجاج» عن هذا الميل من خلال تصوير حالات القوة والذبول ونزع كل أشكال العظمة الفارغة للسياسية بتذويب الفروق بين الجسد المتحرر في الفن والجسد السياسي الفارغ. هذا الجسد سيظهر مرتحلا في «غرفة المسافرين» بحيث تتأجج الحواس في شحذ واستعادة لما يمنحه لنا من فتنة بصرية وروحية. وفي كتاب «الغواية» تصبح القراءة فِعلا أيروتيكيا وحسيا يتجاوز العمل الذهني إلى الملامسة والرؤية.

 الطبق الرئيسي في رواية «الطاهي يقتل والكاتب ينتحر» هو: ألف ليلة وليلة، إضافة لأعمال نجيب محفوظ وربما يعكس اختيار هذين العملين توقه لتبيان تمثلات الحرية الإنسانية عبر الخيال في نصوص الليالي والتساؤل والمعنى في روايات محفوظ، عبر المقاربة والتأويل، يحتشد النص بأعمال أدبية وقسم كبير منها طبق محبب للاستبداد.

إن الطبق الرئيسي في رواية «الطاهي يقتل والكاتب ينتحر» هو: ألف ليلة وليلة، إضافة لأعمال نجيب محفوظ وربما يعكس اختيار هذين العملين توقه لتبيان تمثلات الحرية الإنسانية عبر الخيال في نصوص الليالي والتساؤل والمعنى في روايات محفوظ، عبر المقاربة والتأويل، يحتشد النص بأعمال أدبية وقسم كبير منها طبق محبب للاستبداد. وهي روايات أعدت في مطابخ الكيتش، سواء في ضخامتها وترهلها على غرار فيديوهات بوراك، أو كونها كوجبات الأكل السريع التي تبيع عواطف زائفة ولها جيش من المريدين، نصوص لها بنية المستبد: الإبهار والدعاية والخلو من الفائدة.

وفي المقابل فالرواية تحتاج لروح الأنوثة (الكرم، الإنصات العميق، الجَلد) وكما يدعم المالح الحلو، كذلك يُخلَق التجانس في العمل الأدبي من المتضادات بين شخصيات ماجنة وأخرى ملتزمة؛ ويستحضر روايات تحقق فيها الانسجام والتوازن بالروح التي تَسِم النص الأدبي وتجعل الطبخة ذاتها أطيب من يدِ طاه يملك الشغف والكرم. سيدخل الطبخ إلى النص الروائي وتوضع الكتابة والطعام فوق طاولة واحدة.

وعبر المقابلة بين الطبخ والكتابة وتحت عناوين (عن الانسجام، بارتلبي يفضل ألا، حكمة الشكل، لغات الرواية، حكمة الخفاء، المخفي في قلب حضرة المحترم، المزاح مع التاريخ، سحر الكيتش، الطبخة اللامنتهية) نتعرف إلى كتابة تنمي مهارة النقد والسؤال، وأخرى تقتل الحليمات الذوقية (بين كاتب يفسد الذائقة وآخر يشوهها) كما يتناول المبالغة في الأدب متمثلة في أعمال هاروكي موراكامي وكارلوس زافون التي تفوح برائحة التوابل الكثيرة ما يذكرنا بمطبخ بوراك وخرافه المحشوة، وهذه المماثلة بين الزائف والحقيقي تمتد للمماثلة بين زبائن النوعين، وبخلاف زبائن تلك المطاعم فإن مستهلكي الأدب السقيم نشطون وقراراتهم جماعية ولا يتساهلون مع المخالف. إن حواس الإنسان التي وصفها مونتاني بكونها سيداتنا مهددة دائما، لقد تمت الإساءة لملكة الشم، عبر قتل رائحة الجسد والعطور المصنعة، ثم وعبر الصورة تم التلاعب بالبصر. يكتب القمحاوي «لا رواية تستحق البقاء عبر الزمن إلا إذا تركت أثرا شعريا لدى قارئها، لا تستمده من اللغة، بل من عدم اليقين الذي يفتح المجال لتأويلات مختلفة، كاختلاط مذاقات الحلو والمالح والحامض في العيش الشمسي الصعيدي، والباجيت الفرنسي» فعدم اليقين في الرواية هو نزع السلطة عن النص. فالكتاب تأمل وتحليل لاستراتيجيات الكتابة والعمارة الروائية لنصوص عربية وعالمية تروم استرداد الذائقة من الاستلاب، ويمكن قراءة انحيازه للأنوثة كمحاولة لاستعادة الحواس الإنسانية آخر خطوط الدفاع عن الروح في كتابةٍ: هي مزيج من مؤلفات متعددة ومؤلفين متعددين.

وعبر تقنيات الاستطراد والتأمل والربط بين الأشياء المتباعدة يتخلق جنس جديد في الكتابة وينفتح على الكتابة والطبخ والسياسة، يمكن قراءة الكتابة الجديدة ضمن القوانين الجمالية المرتبطة بالزمان والمكان، حيث العالم مفتوح على بعضه وكل شيء مرتبط بكل شيء. على التخوم بين الفكر والأدب والسياسة يغامر النص الجديد بالذهاب إلى منطقة تكسر الإيهام.

يقوم كتاب «الطاهي يقتل الكاتب ينتحر» على البنية الحكائية التوالديـة لألف ليلة وليلة، عبر تفرعات وحكايات نوويـــة أصغر فأصغر وخليط من نجوم سينما ويوتيوب وتأمل في مطابخ الكيتش ونجوم يوتيوب وتحت طبقات الكيكة الشاهقة في هذا الكتاب، نجد هجاء لاذعا لسياسة استلاب الإنسان الخفية التي تقولِب وتشوه بشكل ممنهج، ومن خلال كل ما سبق: الروح الحرة للإنسان تحت مسمى الحياة الحديثة.

كتاب ينتمي للنقد الثقافي، في بناء معماري أشبه ببناء كلية الهندسة في كراكاس يمكن تطويعه وتعديله ليلائم كل قارئ بحيث يمكنه أن يأكل الطبقة الخارجية من الكيكة أو يذهب للطعوم المتخفية في قلبها. سُئل أيكو مرة «متى يكون الشكل مقبولا جماليا؟ أجاب: «عندما يكون ممكنا تصوره وفهمه وفق منظورات متعددة».

«الطاهي يقتُل الكاتب ينتحر» بيان سياسي في ثوب أدبي يحاول أن يطلق جرس إنذار لنقلق على ملكاتنا المهددة، إنه نقد للأعمال التي كتبت بروح سلطوية وستُقرأ في أفق من التبعية والانقياد، سواء بالرفض أو الطاعة العمياء. واستعادة للدور الأساس للفن والكتابة أي: تحفيز النقد والسؤال باعتبارهما المكون الأساس للطبق الأهم في الوجود: الحرية.

كاتبة سورية

—————————————————

* في والجدير ذكره: الكيتش كمصطلح كلمة «كيتش» (kitsch) *-قاموس اللغة الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر، اشتُقت من كلمة ألمانية هي «Kitschen» التي تعني «جمع القمامة من الشارع» أو من كلمة أخرى وهي «Verkitschen» وتعني «جعل الشيء رخيصا» قاموس أوكسفورد عرف هذه الكلمة بأنها «تقديم شيء لا قيمة له»

* -مقال سطوة الكيتش التي تتحدى الزمن، روجر سكروتون، تر: سامح سمير، موقع بي بي سي، 2014









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي