«سيرة مختلفة» للعراقي جاسم الخالدي: الشاعر «صياد ذاكرة»

2023-11-07

رياض خليف

لا تخلو الكتابة الشعرية من صور وأحاسيس ناتجة عن فعل التذكر. فالقول الشعري هو قول مسكون بالماضي، أفراحا وأتراحا، ندوبا وجراحا، يحمل في باطنه ما ترسب في الذاكرة من يوميات وتفاصيل ووجوه مضت أو انقطعت تجربة الشاعر معها. فثمة برزخ ممتد من التخييل الشعري تنخرط فيه الذاكرة في عملية إنشاء القصيدة وصبغها بروح أدبية. وهو ما يتجلى في حضور أشكال مختلفة من التذكر في تجارب شعرية كثيرة. فللأمس إنشائيته في الكتابة الشعرية القديمة والحديثة. ولذلك نستعير مصطلح «صيد الذاكرة « الذي استخدمته رضوى عاشور لنعتبر الشاعر أيضا صياد ذاكرة، ينتقي من أمسه ما يضخه في القصيدة. وهذا ما نلمسه في هذه التجربة الشعرية لجاسم الخالدي، الجامعي والشاعر العراقي، فقد جاءت مجموعته الشعرية «سيرة مختلفة» مفصحة منذ عنوانها عن صلتها بالسيري والذاكراتي. كتابة تنهل من الأمس وتتذكره، وتكتب شيئا من ذات الشاعر وتفاصيله، فإذا الكتابة الشعرية تذكّر والتقاط للصور العابرة، وإذا القصائد تكتب تفاصيل سيرة الذات وتلمح إلى سيرة الشاعر وما فيها من أحداث.

لعل أول مظاهر هذا الخطاب التذكري استدعاء بيت الطفولة وطقوسه وشخصياته. ومن الطبيعي أن يتصدر البيت وعالمه مثل هذا الخطاب، فالبيت فضاء حميمي وخزان ذاكرة وهو فضاء ألفتنا، على حد تعبير باشلار. فجاسم الخالدي ينسج نصوصه الشعرية مقتنصّا ما تتيحه ذاكرة البيت. وهو فضاء الطفولة الحالمة وسنوات الشباب. فتحضر في بعض المقاطع صورة الأم والأب وبعض أفراد العائلة. ونسجل حضورا للكثير من الطقوس والعادات. فنرصد طقوس البادية وتمثلاتها، وما فيها من أجواء الطفولة المندفعة إلى زيارات المراقد.

« حين كنا صغارا

نذهب كل عام إلى المراقد

تصطحبنا أمهاتنا…»

ويستدعي الشاعر الكثير من الوجوه القديمة الراسخة في الذاكرة، على غرار مدرسة القرية والمعلمين. فتجد المدرسة الطينية وبعض وجوهها:

المدرسة الطينية

تقاعد معلموها

وأما أبو حسن فحمل جرسه ورحل

يطغى على هذا التذكر إحساس الرحيل وتغير الحياة. فالقرية تبدلت وجوهها تغيرت في المدرسة أو الدكاكين:

ومن كان يجلس عصرا عند الجمعية الفلاحية

أظنهم قد اجتمعوا

في مكان آخر…

فإذا كتابة الذاكرة تحمل في باطنها أكثر من صرخة وتعبر عن شيء من الأسى لتغير الواقع وتحول الحياة من حالة البساطة إلى شيء من الجحيم:

كنا ننام على سطوح بيوتنا

دون فزع

فلا أزيز الرصاص يبدد سكون ليلنا الهادي

كنا نسهر مع القمر

نعد النجوم

نجمة نجمة…

ولعل هذه الكتابة تخرج من البعد الذاتي الفردي لتصبح كتابة لذاكرة جماعية، ذاكرة الأجيال وما فيها وهو ما يشير إليه الناقد ياسين نصير:

« فالكثير من المقطوعات الشعرية مكتوبة بضمير جماعي لأن كاتبها جاسم الخالدي استبطن تاريخ الأشياء المشترك في طفولتنا وقرانا ومرابعنا وقفشات الحب والغزل، وتتبع صدى العائد من الظرات عبر النوافذ والأبواب وطرائق القرية». ويمكن القول إن كتابة الذاكرة تبدو خطابا متحسرا على الأمس ومنزعجا من الراهن. لكن الشاعر يوسع ذاكرته إلى مرحلة أخرى من مراحل حياته وهي مرحلة الانتقال إلى المدينة والانضمام إلى المشهد الشعري..

يتذكر الشاعر بدايات الالتحاق بالمدينة وهو بذلك يستعيد لحظة الاصطدام بالمدينة وهي اللحظة التي شكلت لحظة أساسية في تجارب شعراء الحداثة والمعاصرة القادمين من القرى والأرياف مثل، السياب والبياتي وغيرهما . فعند أكثرهم تلوح ثيمة التصادم مع المدينة والضياع في عوالمها.

هذا التوتر تصوره تجربة جاسم الخالدي:

قيل إن الولد القادم من القرية

قد أثقل المدينة بعاداته البالية

وإنه أشبعنا قبحا

ووسمها بالعاهرة…

وقيل إنه لا يعرف من المدينة

إلا أماكن اللهو والنجاسة…

فهناك هذا الرفض والتطير الذي أدى إلى وسمها بالعاهرة، وهناك ذلك الضياع والاندفاع نحو الملاهي وهو ما يعرضه بدوره للانتقاد. فهذا المقطع يكتب ذلك الرفض المتبادل بين الطرفين: الفتى القروي والمدينة…

هذه الصورة تفضي بنا إلى ظهور الشخصية المثقفة المختلفة في هذا الفضاء:

… وقيل إنه لا يجلس في المقهى

دون صحيفة

وإنه بدأ يحفظ أسماء الشعراء

وكتاب الأعمدة الصحافية

وإنه صار يعرفهم واحدا واحدا

وصار يكفر بكل أرباب المدينة…

فهذا المقطع لا يؤكد فقط ظهور الشخصية المثقفة لدى الشاعر، بل يبرز صورة المثقف الرافض والشاعر الجديد الذي يتبنى الأطروحات الشعرية الجديدة، ولعلنا هنا نلتقي مع نوع من الخطاب الميتاشعري أو خطاب الشعر على الشعر.

« صار يكتب قصيدة التفعيلة

ويكفر بكل قصيدة سواها

وصار يسمي الأوزان قيودا…»

صفوة القول إن هذه القراءة السريعة لمجموعة جاسم الخالدي تصف مظاهر حضور الذاكرة، مسجلة ما فيها من جمع بين وجوه السيرة، الاجتماعي والعاطفي والأدبي. وما فيها من تحولات هذا الخطاب السيري وتحوله من خطاب نفسي إلى خطاب يحمل بعدا جماعيا، ويرسم ذاكرة جماعية فيمتزج الشعر باليومي ويصبح إلى كتابة للإنسان العراقي برمته وهو يعيش بين ذكرياته المختلفة التي خلخلتها الحروب.

كاتب تونسي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي