شعرية الكتابة القصصية في مجموعة «جفون التيه»

2023-11-03

رشيد بلعربي

تضمر التجربة القصصية عند صفاء اللوكي نفاسة مستقطرة من رحيق المكابدة، وهذا ما جعل القراءة مدعوة إلى وسم «جفون التيه» بميسم العمل، نظرا لما يسند هذه المجموعة من شغل وانهمام بالكتابة، وهي تعاند البياض وتنشد معانقة مجهول المعنـى.

تصدر المبدعة عن ارتياب لا تخطئه العين؛ حتى ليخال القارئ أن ثمة قلقا مبذورا في نسغ البناء النصي، كما أن العمل لديها محصن بوعي استيطيقي خاص، يدفعك رأسا إلى التعامل مع اللغة، لا بوصفها قبلا أو معطى جاهزا، بل بما هي إحداث للصدع وشكل من أشكال الرد بالكتابة ضد كل ما يطول المرأة من امتهان واستلاب.

في ضيافة هذا العمل، إذن، نحن إزاء سفر سردي، تنهض معماريته على تشاكـل خمسة عشر نصا، هي مداميك البناء وسواريه، نصوص أشبه بغرف داخلية ذات أبواب مشرعة على احتمالات القراءة ومغامرات التلقي.

كتابة التيه

تتحرك القاصة في أفضية مترعة بالخيبات، وتنوس على مهاد واقعين أحدهما ينبض بالخديعة والمكر وتجريد المرء من إنسانيته، ويمعن في ذم من ينتسبون إليه، وآخر يشكل مرتعا خصبا لأماني الكاتبة، حيث تسود قيم الإنصاف والعدالة الاجتماعية، ليظل النزوع إلى تشييد واقع أجمل خصيصة ملازمة لها، نزوع وإن تدثر بمسحة طفولية، إلا إنه يشي بنوازع مخبوءة في كينونة لا تكف عن التفكير بصوت عال والبوح بما يعتمل في خلدها. تقول القاصة في نص بعنوان «بصمة على بحر الظلمات»: «أشتهي قول كل شيء لك، ولست أدري… بئر الصمت يلفني، في صمتي العميق أجوبة كثيرة، إن تحدثت فلن أتمتم سوى الصمت… حافية أنا يحضن قدميّ رملك الندي بأريج الصبح ونفسك يشق خزان هوائي، فيحملني إلى أبعد ما يكون».

ثمة فضاءات بكر، لا تنفك تشخص أمام القارئ، فضاءات لغة وتركيب وبناء ومتخيل ولود، إنه ضلوع لذيذ ضمن بكورية عسيرة، تبقي أثر مكابداتها الليلية على جملة سردية، تلتف على نفسها، لتنبجس من الأعماق مختلفة عن سلالتها. يتبدى أثر ولادة نص، صفاء مضمخ برهافة حس لافتة، وهذا ما علمها كيف تجيل حواسها في مختلف الجهات، فلا تطمئن، تبعا لذلك، إلى ما أرساه سريان العادة في نفوسنا، من وهم مخل بتعبير نيتشه، نقرأ في مقطع آخر: «دعنا نبتكر الصوت بالصمت، فما بينهما شاسع ومجهول وغارق جارف كمثلث بيرمودا… عالمي إحداثياته مبهمة، وإني حقيقة لا أقرأ فيك شيئا إلا نفسي».

إنه شيء مريب أشبه بعمل السحر، أن تحوز امتياز إبداع معادل موضوعي لهذا المسرح اللانهائي الذي نعيش فيه، أن توجد في العالم باللغة، وتعيد استنطاق ما تُنوسي وظل غافيا في الأعماق؛ هذا ما يصدق، كما هو بين، على القاصة، وهي تنشغل بالتقاط المألوف وتغريبه بتعبير بريشت، حاذقة في استغوار ملامح الواقع، غير عابئة بالعقائد والمسبقات، ومسلحة بذخيرة معرفية، مكنتها من الإنصات إلى أدق التفاصيل ومعالجتها في قالب فني، تنظمه طاقة تخييلية، جعلت نصوصها في حل دائم عن أي خطابية أو تقريرية فجة. كما أنها تدرك جيدا أن القصة جنس لغوي بامتياز، وأن تطويرها ملزم بأن يمر عبر اللغة المتعددة داخل وحدتها، ذلك أن تخصيص القصص وتشييد تضاريسها يستدعيان وعي اللغة في كل أبعادها، خاصة ما يتصل باللغات المتناسلة المتجابهة داخل الكلام الاجتماعي، فالتعدد اللغوي، حسب محمد برادة «يقتضي تشخيص التمايزات الملموسة عبر اللغة، وداخل النص أولا، ولا يتعلق الأمر بتطعيم النصوص بكلمات دارجة أو متداولة، بل الغوص في أعماق التعدد الاجتماعي والأيديولوجي من خلال اللغات المتعايشة والمتصارعة في آن».

الوجود باللغة

إن التيه هو تلك المنطقة القصية التي تتمكن الذات الكاتبة، لا من بلوغها، بل من استحقاق الإشارة إليها، كلما تكشفت ملامح منها. انبثاق هذه الملامح أمر شاق ومتطلب لكنه مؤت في آن، إذ فيه تصطدم الذات بمجهولها البعيد، لأنها لا تملك من الانتساب إليه سوى إشارات هي عينها ذلك القليل المتحصل من الومض الهارب. تحقق الكتابة القصصية مجدها الخاص حينما تنتسب إلى ما يدوم ويبقى ؛ أي أنها تنطوي على قدوم من مستقبل يظل دوما مستقبلا. يسفر التيه، بموجب ذلك، عن يُتمٍ ومكابدة ووحدة قاتلة، كما أن الوحدة في الكتابة ليست مسافة مكانية، إنها توتر حاد مع اللغة، فما يهم المبدع، أساسا، في تجربته مع العالم هو ظلاله، العالم يمضي مسوقا إلى رتابته الشبيهة بجريان الماء في النهر، بيد أن الظلال تظل مكتنزة بالأسرار، التي أئتمن الكاتب على صونها.

من هنا، يتضح أن الحقائق تتولد عبر التماس المطرد بالعالم وأشيائه المستلقية، هنااك، في صمت مريب. و»قيمة العالم متوقفة على المعنى الذي نعطيه إياه».

يقول مصطفى يعلى في هذا الصدد: «إن الإنصات المثابر إلى نبض الإنسان وحركة الواقع الداخلي للمجتمع، ورعشات العالم الخارجي الإنساني؛ يمثل ضرورة قصوى لرفد الكتابة القصصية بما يشحنها بالعنصر الإنساني المطلوب، وإلا تحولت إلى كون مكتف بذاته، ينهض على معادلات هندسية شكلية مفرغة من أي حرارة ودفء».

إن ما تستغرقه العادة في تجربة الحياة والعالم، يحرره الخيال ويكشف عن طاقاته المنسية، وهنا، تكمن، عميقا، فرادة تجربة القاصة، فهي تحرص على ذاك التخمر البطي لسيرورة الأحداث، تحدب على الشخوص والأفضية، تلازمها طويلا، لكن دون أن تغرقها في مثالية مجردة، بل تحرص على فوريتها المغتبطة بتنفس الحياة لأول مرة، تقول الساردة نص أقرب ما يكون إلى روح الشذرة الشعرية: «ساعة الشروق تدنو، تنهض الشمس متثاقلة لترسل لي خيطا يداعب عينيّ. نوارس العشق تلهو بين السماء والرمل أما أنا وأنت بيننا واو فقط».

يغدو فعل التذويت، والحالة هذه، استئناسا بالمكان الموحش في القلب، وفي اليد التي لا تلبث تخط وشمها بتكثيف دال ووجازة ماكرة، يد تكتب ما يعتريها من يتم واحتراق ومكابرة وفراغ من كل شيء إلا من ذات الكاتبة، وهي تنافح عن أفقها المولد للأسئلة الحارقة بمسؤولية وحساسية مفرطة.

كاتب مغربي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي