لغة المناورة في رواية «الغول البهي» للعراقي عمار الثويني

2023-11-01

علي لفتة سعيد

يسعى عمار الثويني في روايته «الغول البهي» إلى طرح مفهوم السلطة بطريقةٍ غير مباشرةٍ، مثلما يطرح الصراع الداخلي بين المكان والإنسان في ظلّ السلطة التي قد تكون هي الغول مرّة، أو تكون الذي يقابلها فيصفه بالبهي، فتلك أمارة يبقى تفسير مهمّتها على عاتق من يتلقّى الرواية بطريقته الخاصة، وفهم القصدية التي انبنت عليها فكرة الرواية، وبالتالي حكايتها، وبالنتيجة لعبتها التدوينية التي قاد فيها الثويني كلماته من أجل إنتاج الرواية والوصول بها إلى أبعد مدى، حتى أنه ذكر في (الخاتمة) الصعوبات التي وجدها في كتابة الرواية وإصدارها، وإن أرادها بشكلٍ سردي، والتي عنونها بالخاتمة لتكون مكملة إلى ما وضعه من مقدّمةٍ أعطاها صفة (الاستهلال) لتبيّن مرامي الصراع، سواء في تبويب الحكاية وفكرتها، أو الاستعارة بالمعاناة وتفاعلها ما بين الذات الكاتبة والذات المراقبة من الخارج، من أجل منح صوت الاعتراض على ما حول، كونه نابعا من مركز حول الداخل الإنتاجي.

فالرواية يمكن أن تنتمي كفكرةٍ وحكايةٍ إلى ما يطلق عليها الرواية البوليسية، وقد قسّم المنتج الثويني أحداثها إلى ثلاثة عشر فصلا، فضلا عن تعقيبٍ توضيحي، كما ذكرنا استهلالا وخاتمة، من أجل تفكيك أواصر هذه الرواية، وإعطاء ملمحها البوليسي. وأيضا يمكن تصنيفها على أنها رواية حرب بكل مصاعبها وابتلاءاتها الكبرى، حيث تدور في زمن وحشي، الذي كوّن الحرب والسلطة، وبالتالي فإن الدمج بين مفهومي الجريمة البوليسية والجريمة الحربية/ السياسية، كانت استثمارا جيدا للواجهة العليا لمنطقة التفعيل التدويني. فقد مارس المنتج طريقة تبويبٍ لم يجعل لها منطقا واحدا أو تصاعدا دراميا واحدا، ولم يجعلها كذلك على شكل تعدّد الأصوات، مثلما لم يجعلها تأخذ جانب الروي على لسان شخصيةٍ واحدة، بل جعلها تأخذ من هذا وذاك، من أجل ربط الأحداث تارة، وجعل المتلقّي يتابع السيرة والفعل تارة أخرى.. المنطق والتغريب.. الفعل وردّة الفعل.. الاقتراب والابتعاد.. الدوران والاستقامة.. المحيط والمركز، بهدف صناعة لحظةٍ إدهاشيةٍ سعى من خلال الترتيب التدويني إلى ممارسة اللعبة بطريقته التي تبدو في أحيانٍ كثيرةٍ أنه يتقصدّها، وفي أحيانٍ أخرى تأتي بشكلها الطبيعي، حسبما تحتاجه اللحظة التدوينية لهذا الجزء من الرواية أو ذاك الصوت للراوي أو أصوات الشخصيات العديدة، التي حفلت بها الرواية. لهذا فإن الرواية جعلها على شكل دائرة، مركزها المدينة والمكان الذي رسمه (الكرامة) والمحيط الكلّي هو البلاد، والمحرّك هي السلطة في ما يكون المتحرّك هي تفاصيل الحكاية.

اللغة ولعبة المستويات

تنتمي هذه الرواية إلى عملية المداخلة بين الفكرة الأساسية والحكاية الكبرى، لذا احتاج إلى لعبةٍ تخرج من آلية التدوين إلى آلية اللعبة، التي تجعل من المراوغة طريقة لكسر أفق التلقّي والتسلسل الآلي للأحداث. فهو أيّ المنتج/ الروائي لا يسير وفق خطٍ مستقيمٍ منذ أن بدأ بالمعلومة المباشرة التي لا ترتبط بالحكاية الأم، فجعلها استهلالا زمنيا ومكانيا محدّدا تحديدا رقميا واسميا (أبو ظبي، السبت،11 نيسان/أبريل 2015) لتبدو عملية الاستهلال هي عملية جمع ما سماها بالملفات في يدٍ واحدةٍ ليقوم بعدها بتقشير أو تفكيك العلاقات المرتبطة بهذه الملفات (في اليوم التالي، كنت على أحر من الجمر لوصول الملفات كما وعدني زميلي). وهو بهذا يفصح عن أن ما سياتي مرتبط بما وضعه من معلومات غير مكتملة في (الاستهلال) لتكون هي المركز الذي تدور حوله الإجراءات السردية الأخرى، سواء من خلال توزيع الشخصيات، أو الأزمان، وبالنتيجة الأمكنة، مثلما يوزّع الأصوات على الأقسام الثلاثة عشر والخاتمة، من أجل بلوغ نتائج الفكرة وحصاد مفعول قصدية الحكاية.

إن هذه الطريقة احتاجت إلى لغةٍ لا تتوغّل في الواقعية بشكلٍ مقصود، وبالوصف المكاني بشكلٍ متدرّج، ولا بالتراكمية بشكلٍ يصعب معها تحليل الممكنات الأساسية للفكرة. فالرواية عبارة عن محرّكات من الحكايا التي يربطها رابط المركز، ولهذا نرى أن المستوى الإخباري كان المسيطر الأساس، وهو أمرٌ طبيعيٌّ، حيث إن أغلب الروايات يسيطر عليها هذا المستوى بالتقارب مع المستوى التصويري الذي يعطي شحنة صورية متخيّلة تعوّض عن عين الكاميرا التي تتحوّل إلى مهادٍ صوري مخيّلاتي لدى المتلقّي، خاصة أن الروائي أراد من راويه المنيب أن يكون غارقا في الواقعية حتى في الأسماء والأماكن، رغم أنه أي المتلقّي في إمكانه إيجاد مواطئ قدمٍ كثيرة لتفعيل الجزء المتخيل من الحكايا، لهذا فإن اللغة كانت تعتمد على مهادية اللحظة الكتابية وفق عدد من النقاط:

– إنها لغةٌ محكية تساهم في طفح الواقع لتقترب من المتلقّي والقارئ معا. المتلقّي الذي يريد التفكير مع الفكرة والحكاية، والقارئ الذي يريد التمتّع بالحكايا (في اليومين اللذين أعقبا مصرع ضياء وعائلته، أمست مدينة الكرامة على كف عفريت. زاد الطلب على الأسلحة الشخصية بنحو مجنون وقفزت أسعار كل أنواع المسدسات والبنادق حتى القديمة منها).

لغةٌ جعلها الروائي الحلقة الوسطى، أو السلسلة التي تربط كلّ الأصوات التي أعلنها في الأقسام السردية لتكون بشكلٍ يتقرب من التشابه، ليعلن على لسان راويه، أنه من يقود الحدث، وبالنتيجة تظهر المعالم الكلية للحكاية وعلى المتلقّي ربطها بالفكرة وما جاء من صراع سياجتماعي داخلي وخارجي. الصراع والهرب.

– لغةٌ تصوّر المشهد الواقعي وتقرّبه إلى الصورة السينمائية، أو التلفزيونية باعتبار الرواية تقترّب من المسلسل التلفزيوني في عرض الشخصيات وتصاعد الحدث ما بين الجريمة أو الإعدام أو الحياة الشخصية لبعض المشاركين في الحالتين، وما يمكن أن يصف فيها الواقع السياسي الذي تسبّب في ما يمكن الارتباط بالملفات التي كانت في (الاستهلال) على اعتبار أن عملية التقشير بدأت من هناك لتتوسّع آفاق الأمكنة (لم ينم رحيم في تلك الليلة وأغفل حتى عن السؤال عن صحة والدته بعدما عادا بعد ساعات إلى المنزل).

– تقترب من المحكي والتوصيف مثلما تقترب من الرهان الاجتماعي للواقعية ومحاولة جعلها واقعية حتى في أسماء الأماكن والشخوص والأفعال اليومية الواقعية التي تعيشها الأسر العراقية (كانت زوجة حنون قد هجرته قبل أيام، ماضية إلى منزل والدها في حي التحدي عند الطرف الآخر من المدينة، في ذلك اليوم ضربها بعنف لأول مرّة أثر خلاف نشب بينهما).

-لغةٌ أعانت المستويات التدوينية لتكون بمستوى الحدث الكلّي للحكاية وبالنتيجة الاستفادة من تصوير المشاهد وفضح الصراعات، لتكون اللغة بكلّ مستوياتها، خاصّة الإخباري هو المعوّل على فهم المبنى الحكائي (جابت شوارع المدينة سيارات الشرطة والمنظمة الحزبية، وإحدى دوريات الجيش وهي تصدح بمكبر الصوت، معلنة مكافأة مغرية قدرها خمسة ملايين دينار لكل من يرشد إلى المجرم الذي ارتكب جريمة القتل في المدينة).

-لغةٌ جعلها الروائي الحلقة الوسطى، أو السلسلة التي تربط كلّ الأصوات التي أعلنها في الأقسام السردية لتكون بشكلٍ يتقرب من التشابه، ليعلن على لسان راويه، أنه من يقود الحدث، وبالنتيجة تظهر المعالم الكلية للحكاية وعلى المتلقّي ربطها بالفكرة وما جاء من صراع سياجتماعي داخلي وخارجي. الصراع والهرب.. المواجهة والخوف.. التحدي والمناورة.. (لاح سلمان في وضع مزر ذلك اليوم عندما أوتي به إلى قاعة التحقيق في الجريمة الأخيرة، محاولا قتل الاستاذ أسعد جلوب».

– إنها لغة ناقلة للحدث وواصفة أيضا للذكر والتنويه عن كل شيء، وهو ما جعلها لغة تستطيل في بعض الأحيان لتعلن أدق التفاصيل (عندما انقلب كاظم من جولاته المكوكية في دول الخليج، شعر بأنه خائر القوى من كل مشاوير ونوبات المفاوضات، ومن ثم رحلة العودة برّا ليوم كامل في الحافلة من عمان إلى بغداد عبر طريبيل وصولا إلى منزله في اليوم التالي).

– إنها لغةٌ واصفةٌ فكان الوصف يبرز في الحالة الديناميكية، ليدخل إلى الحالة السردية فيكون المستوى القصدي واضحا في مراميه من خلال التحليل الذي يبرزه الراوي، ليكون هو المستعان في التصوير (كان علاء ذا قدرة عجيبة في الرمي بالحصى والحجارة أكسبته شهرة استثنائية ذاع صداها بين أهالي المدينة وخارجها).

-لغةٌ تراوغ اللعبة الحكائية لتجعلها لا تبدو رواية جريمةٍ ولا رواية واقعية ولا تخرج عن المخيالية، بقدر ما أرادها أن تكون محمولا على كلّ ما ذكر، لمنح عملية التفتيش للمتلقّي وقتا كافيا لمعرفة التفاصيل (أخذ النقيب عمران جولة في شوارع المدينة بسيارته، رائيا أنها ما زالت تنوء من واقعها المزري بعد التغيير، على الرغم من التوسع العمراني الكبير).

–  لغةٌ بيّنت قدرة المستويات على الوضوح في تبويب لعبتها السردية والانتقال ما بين الحكاية والفكرة، وبين المتن السردي والمبنى الحكائي، وبين الوضوح والتقطيع القصدي، لكسر أفق التوقّع في استمرارية الحكاية، من خلال وضع نقاط بناء واقعية للاستدلال على الثيمات التي تقترب من فهم القارئ ليكون متفاعلا معها (لم تنقطع الطاقة الكهربائية عن المدينة غير تلك الليلة، للمرة الأولى منذ أسابيع. اتصل القائمقام بمدير الكهرباء فاستنفر هو الآخر عدته وعديده من الرجال منذ الظهر).

– لغةٌ ميسّرةٌ مفهومةٌ تلائم الكلّ العام للبناء الروائي، مثلما تلائم اللعبة التدوينية، فقد جاءت بطريقة من يريد الإخبار عبر التقطيع الزمني، وإن كان متصاعدا كما يبدو من عناوين بعض الأقسام التي جاءت في استهلالها الأول مبنيّا على تاريخ زمني، لكنها ايضا تواكب الحوادث التي يسردها الراوي لخلق عددٍ من العقد التي ترتبط بالعقدة الرئيسية التي بدأت بها (الملفات) والتي توسّعت إلى مناحٍ حياتية عديدة. وهذه النقطة لا يمكن اقتباس جزءٍ من الرواية، لتكون الدليل كونها مبثوثة في أغلب العقد والأقسام والحكايات والتفاعل بين الشخوص الذين جاءوا محمّلين بهمومٍ متشابهةٍ ومتقاطعةٍ من أجل منح الطاقة السردية ضوء حضورها.

-الرواية انبنت في ظاهرها على حكاية اجتماعية وجوهرها الفكري على صراع سياسي، من أجل كشف باطنها المخيالي الذي ينتقل في مسوحات المدينة، لذا فإن «الغول البهي» قد لا يكون بهيّا في المعنى المتداول والذي يبحث عنه المتلقّي، بقدر ما يكون بهيّا في معرفة تفاصيل الحياة الجزء المعيّن من الشعب وتمتدّ أذرعه إلى البلاد كلها، حين يتم التعامل مع القضايا الكلية المشتركة على أنها شيءٌ عامٌ في جزء، وجزءٌ يتوسّع إلى عامٍ من مثل ما حصل في عام 1991 وغيرها من الصراعات ما بين السلطة والناس.

كاتب عراقي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي