أحمد بلحاج آية وارهام: التجربة الصوفية كما خُضْتها هي طريق التحبب إلى الكون

2023-11-01

حاوره: عبد اللطيف الوراري

أحمد بلحاج آية وارهام شاعر وكاتب مغربي ارتبط نتاجه الأدبي والفكري المتنوع بالتجربة الصوفية، معرفة وسلوكا وتذوقا. تشكل هذه التجربة في مساره الإبداعي مرحلة اللغة الإشارية النابعة من «الذات المُخَلقَة صوفيا»؛ حيث يرى أن ما يحدد إنسانيته، وإنسانية الإنسان عامة، ليس هو العقلانية كما هو مشاع، وإنما درجة الأخلاقية. من هنا، ترتقي الكتابة الصوفية عنده إلى مرتبة الكوني، باعتبارها كتابة رمزية وككتابة مجاهدة، وباعتبارها كتابة لا تَقوم على إقصاء الآخر وإلغائه أيا كان، أو إهمال قيمه، أو تجاهلِ خصوصياته، فهي تساهم في تخليق الوجود بكل مكوناته، وتعتبر سبيل الحداثة.

وفي علاقتها بالشعر، يرى أن الصوفية بُعد شعري حداثي رحب، يُخرج الذات الشاعرة من الراكد الراهن، ويفسح أمامها المجال لخلق عالم مفارق يستند إلى داخليته وجوهره المغاير للظاهر، فيتمثل الحقيقة في أجلى حالات الصفاء عن طريق «الرؤيا البصائرية». ومثل هذه الصوفية المنشودة ليست صوفية تخاذل وخنوع، ودروشة وانكسار، وهروب وخوف، واجترار وإحباط، وإنما هي صوفية شعرية نابعة من تحت لغات الوجود، تتجاوز أفق الذات الشاعرة برؤيا شاملة تُمكنها من أن تظل متفاعلة مع الوجود. ومن ثمة، تتقاطع الكتابة الشعرية مع التجربة الصوفية في الرؤية الإنسانية للإنسان، وفي الارتقاء بالروح إلى مدارج السمو، وفي استشفاف المجهول واكتشاف ما يختبئ وراء هذا الستار الكثيف الذي هو الواقع اليومي القاسي/الأليف.

منذ خمسين سنة، وأنت بيننا تمشي في الحياة وفي القصيدة. ما الذي تعلمته عبر كل السباحة أو المساحة من التوتر بين الواقع والفن، الحقيقة والوهم، الكائن والممكن؟

الزمن في الشعر هو غير الزمن في الحياة، فهو في هذه له مدلول فلكي وفلسفي، ولكنه في ذاك له مدلول نفسي وجمالي. فالزمني، حسب الشاعر محمد السرغيني، «يختزل الشعري، والشعري يستوعب الزمني إن هما اتسعا، وساعد كل منهما الآخر على تحقيقهما المزدوج الموحد»، ولذا تعلمت أن أروض نفسي على محو كل خطوة خطوتها استجابة لزمن الحياة، لا استجابة لزمن الشعر، حتى إن بدت متلبسة به، لأن الشعر ينطلق من بذرة الوجود ليؤسس وجودا جديدا للوجود خارج زمن الوجود. وبهذا الاعتبار حاولت أن أمزج في تجربتي الشعرية بين عقلنة الشعر ووجْدَنَةِ الفلسفة بطريقة صوفية، تجعل العلاقة بينهما علاقة تَوَاد وتمازجٍ، لا علاقة تعارض وتنافر كما هو الشأن في الفكر الديني. فقد انتهى عهد الاعتقاد بأن الشعر وجدان، وأن الفلسفة عقل خالص، وجاء وقت التزاوج بين العقل والوجدان، اللذين هما من صميم بنية الإنسان. ولن يتم ذلك إلا بفهم أحوال الشعر وتموجاتها وتقلصاتها قديما وحديثا، واتجاهات الفلسفة وتعرجاتها منذ النشأة إلى الآن. إذْ على ضوء هذا الفهم والإدراك ستتقلص المسافات، مثلا: مسافة المحسوس واللامحسوس، ومسافة التضاد والتناقض، ومسافة الحقيقة والمجاز. والمساحات مثل: مساحة الظاهر المتعلقة بسطح المعنى، ومساحة الباطن المتعلقة بما تحت المعنى. وكل من المسافة والمساحة والظاهر والباطن له مداليله الخاصة التي جعلت بعض علم النفس ينحو بها منحى نفسيا، وبعض السيميائيات تخرج بها من حدود المجاز إلى أبعد من ذلك.

إن الشعر لا يلتقي بالفلسفة إلا في مسافة الروحي، وهي مسافة لها علاقة بالجانب الصوفي المهتم بردم الهوة بين المادة والروح، عن طريق تغليب الثانية على الأولى، وبهذا الالتقاء يتأسس كوجيتو شعري من أجل الوجود المنسي. فالشعر لا يبحث مطلقا عن لغز الوجود، وإنما هاجسه الأعلى هو تأسيس وجود للوجود، وبناء معرفة أسمى، خاصة ومفارقة للمعرفة المتداولة. وتحت ضغط هذا الهاجس تكون الكتابة الشعرية مَنْفَذَ خلاصه.. خلاصٍ من الاحتراق بالاحتراق.. احتراق بالتجربة، وفيها ومعها، والتجربة سباحة ومغامرة في أدغال وأحراج وأنهارٍ مرئيةٍ، واصطدام بالشبكات العنكبوتية وأودية السيليكون، وبعواصف اجتثات الثقافات الأصلية التي هي مشاتلُ طبيعيةٌ للذاكرة الشعرية وللخيال البِكْرِ. فأُحادية المعنى، وتبَلد الروح، وانبتار الوجدان، وشبقية الاستنساخ، كلها تهدد القصيدة لا محالة، مثلها مثل منطق السوق، ومنطق المباهج التقنية المُسَطحة للخيال.

استقللت بأسلوبك الشعري والكتابي الذي يتميز بمنزع صوفي ثري الروافد. ماذا وجدتَ في الصوفية؟ وفيم يمكن للمعرفة الصوفية أن تفيد به الشعر لغة ورؤية؟

وجدت في الصوفية من الاحترام والإجلال ما يتجاوز الإنسان إلى العالم كله، حيث تدعو إلى احترامه وتقديره، وتحذرُ من الاستهانة به وتحقيره، الأمر الذي لا نظير له عند حماة البيئة الآن، لأنه أرحب مجالا وأوسع آفاقا، فكل جزء في العالم، بل كل شيء فيه مستند في وجوده إلى نفَسِ رحماني، فمن حقره أو استهان به فإنما حقر ذلك النفَس. ومن ثمة صرت لا أخجل من الاعتذار إلى حجر إذا عثرت فيه.

فالصوفية من هذا المنظور تتيح للإنسان عامة، وللمحترق بالشعر خاصة، الاطلاعَ على الخفي في الوجود، وعلى الغائب المجهول منه، وعلى الحب الذي هو علة وجود العالم، وعلى الجمال الذي هو الصورة التي ظهر عليها الكون بعد أن كان ثابتا في العدم، إذ لولا الحب ما وجد شيء في هذا الكون، أما الكره فهو عَرَضٌ، والعَرَضُ مصيره الزوال. وبما أن الخلق متجدد على الدوام أجسادا ومعانيَ وأشكالا وصورا، وليس فعلا وقع في الماضي وانتهى، وإنما يحدث في كل آن، فإن حب المطلق متجدد كذلك مع الأنفاس، فهو خَلق والَخلق حب. فلحظة خلق شيء – شكل، صورة، معنى- ما هي إلا لحظة حب متجددة، لأن الحب هو مبدأ الوجود، وأصل كل موجود بعينه، والأساس الوحيد لمعرفة الله والإنسان والكون، والأصل الجامع لكل الاعتقادات والعبادات. وما أحوج الإنسانية المُغَرْغِرَة إلى هذه الصوفية المعاصرة للخروج من الصراعات والنزاعات العَقَدِيةِ المُفْنية، والدخولِ في جمال العالم الذي هو جمال الله. فمن أحب العالم أحبه بحب الله، لكونه مَجْلى لجماله المطلق، ومن عين حب المطلق حب الرجل للمرأة باعتباره الصورةَ التي خلق الله الإنسان الكامل عليها، وهي صورة الحق ومجلاه الجمالي، فإذا أحب الرجل المرأة رده حبها إلى الله، باعتباره الصورةَ التي خلق الله الإنسان الكامل عليها، وهي صورة الحق ومجلاه الجمالي، إذ فيها يتحقق حب الإنسان لربه، فاكتشاف الله يتم عبر اكتشاف الذات، واكتشاف الذات يتم عبر اكتشاف المرأة.

ومن أهم ما تفيد به الصوفية الشعر هو أنها تخرجه من لغة العبارة التي لا تنتج شعرا موصولا بأحاسيس الكون، لأنها لغة عقل مقيد ومحدود، وتدخله في لغة الإشارة التي تنتج شعرا بكل جزئيات الكون لكونها أصيلة وبليغة. فحينما اهتديت إلى هذه اللغة استطعت أن أنفذ إلى ما وراء حدود العقل وحدود الظواهر المادية، فاللغة الإشارية هي لغة الوجود التي وسعت آفاقي توسيعا كاملا وروضت خيالي على اقتحام اللانهائي، فهي قد غيرت مداركي، وحولت ولونت المعارف التي اكتسبتها من قبل، ونقلتني من الشعور بالذات إلى الشعور بالآخر الكوني، أي الشعور بالانتماء إلى الوجود انتماء عضويا نورانيا، ورفعت القيم الأخلاقية عندي إلى درجة جمالية، أجد فيها من الاستمتاع والاستلذاذ ما لم أجده على مستوى القيم الأخلاقية المؤطرَةِ بالعقل، بحيث غدوت أرى الأشياء من حولي، وكأنها تحمل أسرارا روحانية يصعب تجسيدها باللفظ، فأصواتها هي بمثابة تسبيح، وحركاتها بمثابة خشوع، تتغشاني وكأني في عالم أشبه ببيت من بيوت الله في ملكوته. وخطاب الأشياء هذا هو خطاب جمال وذوق لا يفهمه إلا عقل بصائري أدق وأرق، لا يروم استحضار القوة المودعة في الأشياء من أجل تسخيرها لأغراضه، وإنما يروم إرادة الرقة في تلك الأشياء، مما يجعل الكون بالنسبة إلى متلقيه مسرحا جماليا يريد أن يصل فيه إلى أسرار اللطافة والنعومة المودعة فيه.

فالتجربة الصوفية ـ كما خُضْتها ـ هي طريق التحبب إلى الكون وإقامة علاقة تودد وتقرب إلى الأشياء، لا طريق تسلط وتصرف فيها وفق الشهوات والأهواء.

كل نص شعري صوفي يتضمن مؤشرات هي بمثابة محفزات للفهم والتأويل، والقارئ الذي لم يلتقط تصوره للعالم والوجود واللغة والإبداع والجمال والمطلق، هذه المؤشرات لن تستطيع التفاعل مع ذلك النص، ولو تدجج بحمولة معرفية ثابتة، لأن النصوص التي من هذا النوع تكون بناها منخرطة على الدوام في التحول، حمالة أوجهٍ، لا تنقضي عجائبها، ولا تنفد أضواؤها، لكونها لصيقة بأضواء اللانهائي.

هل يمكن القول إن هذه الشعرية المسماة عرفانية هي التي أملت عليك الاهتمام بمجالات متنوعة ومتآزرة من الشعر إلى الحروفية والخط العربي، ومن التأملات الذاتية إلى محكي الحياة، ومن المعرفة الصوفية والدراسة الفكرية إلى نقد الفن؟

الذي لا يتعدد لا ينخرط في الوجود الذي هو موار بالتحولات والتبدلات، وسمةُ الكائن المبدع تتجلى في كونه منخطفا دائما بالبحث عن الذات، وممتطيا الأسئلة الملتهبة العاصفة بالثبات. فتحت ضغط هذه السمة تعددت انشغالاتي في مجالات معرفية وأدبية وشعرية وفنية، وبذلك أعطي معنى جديدا لحياتي أكثر وهجا، وأضيف إليها أبعادا تنقذها من التكلس، زيادة على أن هذه الروافد المعرفية تقلص مسافة التوتر بيني وبين الواقع، وتُوسع مساحة الحرية والفن والجمال لدي حتى لكأني أراني غواصا يستخرج أوجه الحقيقة من خضم الوهم، أو فلاحا أسطوريا يزرع الممكن في قلب المستحيل. فكل الأنواع الأدبية والمعرفية في تصوري ما هي إلا أنهار تثري الإبداع الشعري بوصفه معرفة شعرية عليا خارج المعارف المتداولة، شأنه في ذلك شأن المعرفة الصوفية الفوارة، وتمنحه القوة اللازمة لاكتساح الأزمنة والدوران في الديمومة. فالرؤية الشعرية لا تكتمل إلا بهذه الأنهار، فكلما تنوعت أنهار شاعر ما اكتنزت رؤاه، وجعلت المتلقي يبحث في أدراج ذاكرته عما يقربه من تلك الرؤى على مستوى الإيقاع والتشكيل والسرد والدلالة الكُلانية والدلالات الجزئية. إن التعدد مطلوب من كل شاعر، خاصة في ظل ثقافة الاستهلاك المُنَمطَة التي تُلجئنا إلى ترك المبادرات الروحية، وإلى تعطيل التفكير الجواني، والسلبية أمام اجترار القديم، أو الخضوع للوافد الملتبس. فهل أمام هذا نكون نحن؟ وتكون الذات في زمنها؟ إن الذي لا يتعدد لا يمكن أن يكون له وجود، ولذلك فنحن لا ننحاز إلى الأشكال، وإنما إلى الزمن الذي في داخلنا، فهو الذي يبدع أشكالا جديدة لوجود جديد؛ إذ لا يمكن أن تكون للوجود دينامية إلا إذا كانت هناك أشكال أخرى تُصاحبه كشكل الصوفي، فهو ليس مقيما في السكون، وإنما في الاضطراب والحركة. والسر في ذلك انجذابه إلى الحضرة العليا، لا يتقيد بنعت ولا بوصف ولا بأي شيء، بل يتقيد بزمنه الداخلي. والزمن كما نعلم ليس أصلا في الحق، وإنما هو أصل في الكون، وزمن الإنسان هو ما في داخله، وحينما يتطابق زمنه مع الأشكال الموجودة في الوجود تكون هناك الجمالية، ومن ثمة فإن كل مبدع له الحق في أن يخترع الأشكال التي يريدها، والتي تتطابق مع زمنه الداخلي، وبذلك يفتح الذائقة على مباهج الجمال الكوني، وبخلاصها من سجن التنميط الذي وضعتها فيه المؤسسات والمواضعات الماضوية.

هل تصدقني القول إن الشعر الذي يقوم على مصادر عرفانية يتطلب قارئا نوعيا ما، في الوقت نفسه يشكل تحديا مضاعفا بالنسبة للنقد إلى حد يضطره إلى السكوت عنه والقفز عليه ولسان حاله: «كم من حاجة قضيناها بتركها»؟

المكنز الشعري الصوفي هو مكنز التوتر والحيرة، لا مكنز الاغتباط واليقين، فالحيرة تجددك، واليقين يكلسك. ومن هنا تتولد عند الناقد المتلقي إشكالية الفهم والتأويل، وتتغمم سماء مقاربته، فيكتفي بمقولة «كم من حاجة قضيناها بتركها» التماسا للراحة، والتي هي في الأساس دالة على العجز عن نيل المرغوب فيه من الماديات. أما تصريفها في الحقل الأدبي والفكري فإنه دال على عجز مضاعَف من طرف المتلقي، وعلى قصور آليات اشتغاله. فبنية النص الشعري العرفاني هي بنية مركبة ظاهرا وباطنا، وملتبسة بحكم اندغام الوجود فيها بكل تلاوينه السرية، ولذا كان فك شيفراتها يطرح تحديا أمام القارئ.

تعرف أن مفهوم القارئ كما تقرر في نظرية الأدب الحديثة ليس واحدا، فأي واحد من هؤلاء القراء تؤِهله آلياته المعرفية والمنهجية لاستغوار أسرار الشعرية الصوفية بشمولية لا تدع لأحد أي كوة لمقاربة أخرى جديدة؟

أعتقد أن كل نص شعري صوفي يتضمن مؤشرات هي بمثابة محفزات للفهم والتأويل، والقارئ الذي لم يلتقط تصوره للعالم والوجود واللغة والإبداع والجمال والمطلق، هذه المؤشرات لن تستطيع التفاعل مع ذلك النص، ولو تدجج بحمولة معرفية ثابتة، لأن النصوص التي من هذا النوع تكون بناها منخرطة على الدوام في التحول، حمالة أوجهٍ، لا تنقضي عجائبها، ولا تنفد أضواؤها، لكونها لصيقة بأضواء اللانهائي. فكما في الوجود، وفي كل مكوناته ظاهر وباطن، فكذلك في لغة هذه النصوص ظاهر وباطن. ما يجعل ظاهر الوجود وباطنه موازيان لظاهر اللغة وباطنها، فظاهر الكلمة اللغوية هو الجسد، وباطنها هو الروح، ولا باب للباطن إلا الظاهر، إذ منه يجوز الشاعر إليه لبناء عوالمه، وذلك لكون الباطن متضمنا معانيَ لا محدودة، أما الظاهر فليس سوى أفعال محسوسة متناهية. وبهذا الجواز ينتقل من المحسوس إلى المعنى، ولا ينتقل من المعنى إلى الحس، لأن ظهور الباطن له يُحَوله إلى ظاهر؛ له باطن آخر، من دون تسلسل يؤدي إلى (المتناهية الهرمسية).

إن ثنائية الظاهر والباطن هذه تجعل الدلالة خاضعة لسيرورة الخفاء والتجلي، وتجعل المعنى الخفي للنص الشعري الصوفي ممعنا في الهروب، لكونه باطنا لا ينقلب إلى ظاهر بكيمياء القراءة. فاللغة الفنية هي قدر المبدع الصوفي، تعكس معاناته الوجودية، وكل لغة عادية تتشوف للتعبير عن التجربة الصوفية، سيكون مآلها الفشل والسماجة والذبول حتى ولو ظهرت بمظهر لغة العارف، واستعارت ظاهر لغته. فاللغة الشعرية الصوفية قائمة على الترميز الموغل في البطون، وعلى الإجمال المُقَطر، وعلى الإشارة التي بينها وبين العبارة سماوات من الوجد. لا تنتهي الدلالة فيها عند ظاهرها، ومن ثمة كان نظام الشعر الذي تنتجه يوازي نظام الوجود، لا تنزاح اللغة فيه عن أصلها، لأن هذا النظام يعيدها إلى أصلها الذي انزاحت عنه، وهو النفَس الرحماني.

وهكذا أجدني أرى اللغة لا مجرد أصوات حاملة مضامين ما؛ وإنما باعتبارها مخلوقات حقيقية مختلفة عن باقي المخلوقات، لحروفها علاقة مماثلة وموازاة بالعالم، فأحدهما انعكاس للآخر. وكيف لا، وعدد حروف الهجاء هو نفسه عدد مراتب الوجود، وطبقات الحروف هي طبقات الموجودات فيه، وطبائعها توازي طبائعها وعناصرها الأربعة. فما من تقسيم أو تركيب أو نظام في الوجود إلا وله في عالم الحروف ما يشاكله، فبالحروف نكتشف الوجود، ونتعرف على مُعَمياته، ونتأمثله ويتأمثلنا، لأنها أمة من الأمم لا تموت، مُكلفة مثل العالم الإنساني – كما يرى ابن عربي- تتقبل جميع الحقائق كالإنسان تماما، وهذا ما يميزها عن سائر العالم. وكل تشابه فيها يُضمر تخالفا، والتخالف يخفي تشابها، والنظام الذي يحكمها هو عينه الذي يحكم الألفاظ كما يحكم الموجودات في العالم. وقد فصلنا الحديث عن كل هذا في كتابينا «أبجدية الوجود»، و»شجرة النفس الرحماني من الجسد الروحي إلى الإنسان العرفاني». فالنص الشعري الصوفي، انطلاقا من هذا الضوء، هو عالم تتفاعل فيه الحروف والكلمات تفاعلا حيويا، تُدْرِكُ عناصرُه فيه ذاتَها، كما يتفاعل الأفراد في المجتمع، والشعوب في العالم. فمكونات النص كلها اللفظية والبصرية، البسيطة والمركبة تتضافر في بناء الدلالة، وبناء الدلالة يتم عبر علاقة تفاعلية بين كل تلك المكونات من جانب، وبين المتلقي البصير بها.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي