
هاشم شفيق *
كتاب لذيذ وممتع، هو رواية الإيطالي باولو سورنتينو. ما أن تقرأ صفحته الأولى حتى يأخذك في متاهات ودهاليز وتعرّجات رؤيوية، ذات حمولة فانتازية في الكتابة، دهشة في التناول، وفظاظة وخشونة وسوقية في الأسلوب، والسرد البنائي للرواية.
تُخبر الرواية في سياقها المتواتر عن سيرة مطرب، يتمتع بحس لاذع، ودعابة ثاقبة، وروح شبه مستهترة، تتعاطى المخدّرات، وتطارد النساء الجميلات، دونجوان من طينة خاصة، وهذا ليس ببعيد عن الإيطاليين وروحهم التواقة إلى النساء، تتبعهم لخطواتهنَّ، في كل مكان، يكنَّ فيه، على الشاطئ، في العمل، في السوق، في الشارع، مغازلات ومواعيد وسفح كرامة، دون هوادة من أجل الظفر بموعد، أو نظرة غرام، أو قبلة وعناق. فعالم المرأة يشكل للرجل الإيطالي حياة لا تعادلها حياة، وهذا ما تعكسه الأفلام والروايات والمسرحيات الإيطالية، أو هذا ما نلمسه في مسيرة الحياة اليومية، لدى الإيطالي المُحب للحياة، والمتطلع أحياناً إلى الشراب، صحبة النساء، التمتع بالمال، رؤية الأفلام والمسرحيات.
يلجأ الروائي سورنتينو إلى البيوغرافي، إذ لا يقدّم سيرته هو، بل سيرة لمطرب يبتكره خياله، يتحدّث بلسانه، ولكأن السيرة هذه مكتوبة عنه هو، أي المؤلف سورنتينو، فالمطرب المعني هو شخصية فوضوية نوعاً ما، تحب الغناء والنساء والموسيقى، والبطل مواصفاته سريالية، حركاته، أفعاله، حياته ومشاكله، فهو يعيش حياة تحب التمتع بمباهج الحياة، حتى لو كانت من الممنوعات، ومن العقاقير التدميرية، مثل أي فنان في هذا المجال، يشتهر ويتراكم لديه المال يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، ولا يعرف كيف ينفقه، بعد أن يطل على الحياة المرفّهة للمشاهير عموماً، بيته هو «فيلا» كبيرة، فيها مسبح تتوفّر فيه كل وسائل الراحة، سباحة، غناء، شواء، شراب، جنس ومخدرات، فضلاً عن ذلك هناك سفر، لكن أمام كل هذا، ثمة ما يقابله من ثمن يتمثل بالتعب والعناء والمكابدات اليومية، صداع، ومشكلات نفسية وعائلية وحياتية، مع المحيط، والعاملين والمعجبين والمنافسين.
يستفيض الروائي الإيطالي سورنتينو بكشف حياة المغني الذي يغني في الملاهي الليلية، مغن لاه، وهو شخصية لا أباليّة، يتعاطى الكوكايين، ويدخن ويشرب الكحول، ويرتكب الموبقات، سهر ونساء وحياة ليل، مذهبه أستاذه ميمو ريبيتو، مايسترو وأستاذ موسيقي حقيقي، يكتب له مقدّمة كتابه وهو في عمر المئة عام، يكتب للمؤلف وليس للمطرب، وهنا يدخل سورنتينو ليلعب على مقدمة كتابه، من قبل المايسترو، ليرسم عبرها شخصية طوني، المطرب الليلي، وصديق فرانك سيناترا الذي يعدّه عبقرية من عبقريات هوليوود، وعالم نيويورك الليلي، والحياة الجنونية الغارقة في الذهب، وشعاع النساء، ووحل المخدرات.
هكذا هو الكتاب، سرياليات في سرياليات، وقائع صادمة، أخبار سوداء، حِكَم ثاقبة، وعي مبتور، لكن تقابله أيضاً أغنيات، ألحان، موسيقى فاتنة، آلات موسيقية ساحرة، تنقذ البشر من الرذائل والانحراف والمتلازمات المرضية، كون الكاتب هو في الأساس كاتب سيناريوهات، ومؤلف قصص لأفلام، ومخرج نادر ومتوج بجوائز عالمية، من ضمنها «الأوسكار»على فيلمه التحفة «الجمال العظيم» وهذه هي الرواية الأولى له، رواية طرقت أبواب الشهرة الإضافية للمبدع سورنتينو، فهو يكتب كما لو أنه يكتب سيرته لكن بالمقلوب، يكتبها عن مطرب ليلي، يحكي في هذه الرواية كل ماضيه وذكرياته، كل حياته المأساوية، والتراجيدية وملهاته مع النساء، خصوصاً زوجته التي تتشاجر معه ليل نهار، فيضربها بفردة نعاله على صدرها، وأخرى تنال أيضاً جسمها الهائج والثائر ضده، فيخرج من البيت، بعد سهرات طوال في النوادي الليلية الإيطالية، وسفرات للغناء في أمريكا، والبقاء لفترة طويلة يجول في ملاهيها الليلية، ومدنها المبهرجة، الطافحة بالشراب والنساء والمخدرات.
يجلس هناك حتى يحن إلى بلده، فيغادرها ولن يعود إليها، يُطريه سيناترا ويُريه في جلساته معه ولاعته، التي أهدتها له مارلين مونرو، يمدح سيناترا، وأحياناً يشتمه مثل أي خارج على الذوق واللياقة العامة، قاموسه البذاءة ثم البذاءة، مراده إشاعة القبح، ليس عبر أغانيه فقط، بل عبر لسانه، ومن خلال يومياته الحياتية في ميلانو، وكذلك خلال أيام إقامته في البرازيل، متخلّصاً من زوجته ومشاكله معها، تاركاً لها ابنته الوحيدة، التي يعبدها ويدللها بالهدايا والمال والحب.
يلجأ الكاتب وهو مخرج سينمائي من طراز خاص، وله ولع بالتجريب والفانتازيا، الى التقنيات السينمائية، فهناك سرد سينمائي واضح، جمل مشهدية، وصور حافلة بالرؤية البصرية، ليضيف إلى عمله نكهة جمالية مختلفة، تبتدع المقدِرات الفنية الموازية لجمال السرد الحكائي، وليس الروائي فحسب، كون عمله عبارة عن حكايات متداخلة مع رؤيته السينمائية الشاعرية، ومن هنا يأتي جمال عمله هذا المتواشج، والمتداخل والمنتسج في خيوط البراعات الأخرى التي يتقنها.
يحكي في هذه الرواية كل ماضيه وذكرياته، كل حياته المأساوية، والتراجيدية وملهاته مع النساء، خصوصاً زوجته التي تتشاجر معه ليل نهار، فيضربها بفردة نعاله على صدرها، وأخرى تنال أيضاً جسمها الهائج والثائر ضده، فيخرج من البيت، بعد سهرات طوال في النوادي الليلية الإيطالية، وسفرات للغناء في أمريكا، والبقاء لفترة طويلة يجول في ملاهيها الليلية، ومدنها المبهرجة، الطافحة بالشراب والنساء والمخدرات.
|
فهناك الصدمة المشهدية، القذف بالكلام الشارعي، التواطؤ مع المكمّلات الرؤيوية المتباينة، شِعر يتخلل نسيج العبارة، دهشة في تصدير الكلمات الموبوءة والطائشة والشعبوية، سخرية سوداء، دعابة مظلمة، وضحك ذو دلالة، على النفس والذات وضمير المتكلم، وضحك على الجماعة، على «هم» بالضمير الغائب والحاضر، ضحك وتفكّه وسخرية من هذا وذاك، سخرية من الفاعل هو، ومن الفاعلين، أي العاملين معه في العزف الموسيقي، وعلى كل من يراه ويصادفه في تجواله الطربي، وتجواله الإرادي، بالهروب من إيطاليا عموماً، باستثناء أستاذه المايسترو ميمو ريبيتو، فهو يعتبره بمثابة إله آخر، لكن من لحم ودم وموسيقى وغناء.
في البرازيل سيجد الحرية الشخصية، فهو يفكر في الاعتزال، والابتعاد نهائياً عن عالم الأضواء والشهرة، وهو هناك في ريو دي جانيرو، ليس ثمة من ينجو من لسانه السفيه، الحاد والقاطع. ها هو ذا يتذمّر مرة ثانية، من عبء الحياة في البرازيل، واصفاً قذارة مدنها وأزقتها، ولاعناً الحكّة التي أصابته، من جراء القمل الذي التقطه في موقع ما، وحاز الحكاك الدامي.
يتفنن الفنان سورنتينو في الوصف، فهو مخرج من عيّنة مختلفة، عينة يمكن ردّها الى سياق المخرج بازوليني، مخرج الدراما القذرة، والحساس في تناوله لعالم الشارع والقاع السفلي. يبدع سورنتينو في وصف الدنايا والانحطاط البشري، ويدهش وهو يبدي دهشته من مشاهداته للتردي البرازيلي، المتهاوي في الأحياء الفقيرة، وصف مقزز ومتوتر ولعين، وهو يمر في مناطق يعرفها، سكانها عجيبون وهم يعيشون بطرق غريبة في أحياء نتنة، تلك التي رائحتها تصدم المرآى، وحاسة الشم لدى الغريب الزائر للمكان. هناك وفي حانة منسية، سيتعرّف الى البرتو وهو يضاهيه صلافة، فهو قدوة لمن يراه، شخص قوي، يتشاجر حتى لو كان أمامه عشرة رجال فينتصر عليهم، وهو إيطالي، شبيه بفلاح، خشن قاس، لكنه كريم وشهم وذراع قوية للصديق المحتمل، مثل طوني المطرب الهارب من المسؤوليات، وأبرزها الشهرة، لكن طوني سيعود الى الطرب، حين يقع في فخ مليونير، ومنظم حفلات، يعطيه شيكاً على بياض، ورقماً خيالياً من المال، ليعود ويغني في روما العاصمة الإيطالية.
ترجمة معاوية عبد المجيد. المتوسط.
*شاعر وكاتب عراقي