قيثارة دِلمون الوترية ورأس الثور المُقدَّس

2023-05-19

زينب علي البحراني

منذ أن اصطفاها الإلهُ لتكون «أرض الخلود» تحوَّلت إلى لوحةٍ فنيَّة نابضة بالحياة، يُدغدغ البحر أذيالها من جميع الاتجاهات وتُرسل الشمس أشعَّتها سخيَّة بالبركات، فيتدفق الإلهام نحو مشاعر سُكانها وتنطلق «حضارة دِلمون» – التي قامت على ما يُعرف بأرض البحرين حاليا – مُعلنةً عن عهدٍ سخي بالإبداع الفني التشكيلي رسما وزخرفةً ونحتا وتلوينا على الفخَّار، ومن هذا الفن انبثق الفن الموسيقي، الذي تم اكتشافه باكتشاف بقايا آلة «القيثارة» خلال تنقيبات البعثة الدنماركية في معابد باربار الأثرية البحرينية، وهو ما تحدَّث عنه الباحث والفنان التشكيلي البحريني محمود عبدالصاحب البقلاوة في كتابه «قيثارة دِلمون الوتريَّة».

عام 1955 تم العثور على رأس الثور البرونزي/ النحاسي الذي يعتبر مقدمة «قيثارة دلمون» في معابد باربار، لكن لماذا اختار الدِلمونيون أن تكون مُقدمة قيثارتهم الوترية التي يعزفون موسيقاها في المعابد لأغراض دينية على شكل رأس ثور؟ هذا ما حاول الباحث الإجابة عنهُ باستفاضة في أحد فصول كِتابه، الذي يُعتبر مصدرا قيما من مصادر المعلومات التاريخية في هذا الشأن، لاسيما وأنه يجمع بين أهمية المعلومة وبساطة الأسلوب الذي يُمكن للقارئ غير المُتخصص بالشأن التاريخي، أو البحثي فهمه واستيعابه دون مصاعِب.

ما العلاقة بين رأس الثور والقيثارة؟

يصل عمر رأس الثور البرونزي المُكتشف إلى 2500 عام قبل الميلاد، ويذكر الكتاب أنهُ عُثر عليه «بين كومةٍ من صفائح النحاس مدفونة بصورةٍ مُنفصلة تحت أرضية المذبح الرئيسي في معبد باربار الثاني، ويُرجح أنهُ كان في الأصل جُزء من صندوقٍ خشبي موسيقي أو قيثارة، ربما كانت تُستعمل في الاحتفالات الدينية والخاصة، وفي إشارةٍ إلى أن العلاقة بين رأس الثور والقيثارة هي علاقة ذات طقوس دينية يقول المؤلف: «وترجع علاقة القيثارة الدلمونية بالثور وسبب اختيار وضع رأس الثور في مقدمة القيثارة، إلى أن الثور كان مُقدسا في دِلمون ورمزا للألوهية، وأن تقديم القرابين، خصوصا إذا كان القربان ثورا، كان يُرافَق بعزف على القيثارة لأجل تهدئة الثور».

ما رمزية الثور في الفكر الدلموني؟

يمتاز الثور بكونه من الحيوانات التي تم تدجينها على أرض دِلمون، كما أثبتت البقايا العظمية واللُقى الأثرية، كالرسوم الفخَّارية والمجسمات الطينية والنحاسية والبرونزية، والأختام الدلمونية، فحظي بمكانةٍ كبيرة لاستخدامه كمصدرٍ للغذاء إلى جانب مُساهمته في الإنتاج الزراعي والحيواني، وباعتباره من مفردات البيئة الطبيعية والمُجتمعية في حياة الإنسان الدِلموني؛ فقد تم تأويله فكريا إلى شكلٍ رمزي فاعل في الطقوس الروحية والشعائر العِبادية، التي يقيمها هذا المجتمع في مراسم العبادة وطقوس دفن الموتى إلى جانب الاحتفالات بمواسم الحصاد والزراعة وغيرها، من هُنا يرى مؤلف الكتاب، من خلال استنتاجه البحثي أن «رأس الثور غير مقصود لذاتِه؛ بل للتعبير عن أفكار تنتمي إلى مستوى آخر غير منظور في المُعتقد» ويؤكد: «أن رأس الثور الدلموني المُميز أهم أعضاء الثور، وتبرز رمزيته التي تتقمص هذا الكائن وخصائصه المتفوقة في حلول القوة في الطبيعة، والقدرة على فرض الواقع، حتى غدا في تفرُّده رمزا لقوى التكاثر والتناسل وفي استمرارية الوجود؛ وبهذا يتحول شكل رأس الثور من خصوصيته الطبيعية المُجسدة إلى شكلٍ رمزي في الحراك الفكري المُجتمعي الدلموني، حين توَّج مُقدمة القيثارة الدلمونية الوترية بمظهره المُتميز» ثم يستطرِد: «الفكر الدلموني هو الذي أوعز بعمل هذا الشكل المتمثل برأس الثور، لكي يتعدى مجاله المادي والمحسوس ويتجلى في ما تسكنه من روح فاعلة في تنشيط مظاهر الخصب والنماء والتناسل في الطبيعة، حتى تكون رمزيته في التفرُّد بالتوحد مع القوى الأخرى في الماورائيَّات، فكانت تلك الصور تُعامل بقدسية كونها تحمل فعلاً روحيا؛ حيث استبدل الكائن الدلموني محل الكائن المجسد بالمضمون والجوهر».

تجدر الإشارة إلى أن الباحث والفنان التشكيلي البحريني محمود البقلاوة استعان بما حصدهُ من معلوماتٍ بحثية وما رآه من رسوم أثرية على الأختام الدلمونية، إضافة إلى صورة رأس الثور الموجود في متحف البحرين الوطني ليقوم برسم تصميم هندسي يصوِّر شكل «قيثارة دلمون الوترية» ثم يعمل على بناء مُجسم لها من المواد الأوَّلية المُستخدمة في صُنعها خلال ذاك العصر يتقدمه نحتُ دقيق لرأس الثور الدلموني المُقدس.

كاتبة سعودية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي