رواية مرجانة للتونسي نصر بالحاج بالطيب: ذاكرة الخيبة

2023-05-07

رياض خليف

تنشدّ روايات نصر بالحاج طيب إلى التربة المحلية، متنقّلة بين رفوف الذاكرة وروائحها، متوغلة في الصحراء وأصدائها المختلفة، ملتحمة بحياة الهامش ويومياته وأنينه. وهو ما لمسناه في مساره الروائي (الأيام الحافية/انكسار الظل/ تمبانين…). وتأتي روايته الجديدة «مرجانة» لتخرج بقلمه وذاكرته نحو فضاء جديد في الشمال التونسي، حيث الاخضرار وزرقة البحر. ولكنها تظل ضمن سرد سيرة المجتمع، مهتمّة بشكل أكبر بمرحلة ما بعد الثورة، مصورة الكثير من الخيبة.

من الصّحراء إلى الشمال:

في هذا الاتجاه سار جمال بن عمر الذي انتقل من الجنوب إلى الشمال وتجول في مدن وقرى بعيدة ولكن تجربة الروائي أيضا اتجهت من سرد ذاكرة يطوف في فضاءات الجنوب وصحرائه وخيامه ومجالسه ويومياته في رواياته السابقة، إلى سرد يتمركز أساسا في منطقة من مناطق الشمال التونسي وهي جهة طبرقة.

هذه الجهة تشكل فضاء الرواية ومركزها. فالسرد الدائري انطلق منها واختتم فيها. فكانت البداية بذكر تاريخها « ثابركا أو تابراكا المدينة المعلقة، نحتها البحار الفينيقي هانون، لؤلؤة من مرمر أصفر. موطن الظل وبلاد العليق».

يستعرض الروائي تاريخ المدينة، مثريا وصفه بتصوير جمالها المبهر الذي عرفت به، مصوّرا وصول الوفد السياسي الحزبي بعد الثورة حاملا وعوده الباذخة: «جاءت الدمى المصقولة من العاصمة، لإحياء اجتماع شعبي، حضره سكان ولايات وقرى الشمال الغربي للبلاد التونسية. انهمرت الوعود الملوّنة المجانية على البيوت القروية فغمرتها الأحلام الوردية الخرساء، رغم وخز الشوك. لقد وعد القادمون من العاصمة. فرقص الأمل. ستحمل الثورة الخبز والحلوى وضحكات الأطفال والأحذية والمساكن الدافئة والطعام لكل فم». ولعل هذا الحديث عن الاجتماع لا يخلو من استعمال أساليب ساخرة من بينها، استعارة «الدمى المصقولة» في إشارة إلى جماهير الحملات الانتخابية.

رغم هذه البداية الحالمة تكون النهاية البائسة بعد تنفيذ ما تقرّر للشاليه الذي ترتزق منه مرجانة: «تسلل صوت عم العربي من الأدغال البعيدة، ومن كهوف الجبل مهشما مخدوعا، مخذولا، مرتعشا، كشفتي طفل مقرور، يشرف على البكاء». والحقيقة أن هذه النهاية تبدو منسجمة مع الخطاب الدلالي للرواية. فهي كتابة للخيبة والانكسارات.

محنة جيل:

يكتب نصر بلحاج بالطيب في هذه الرواية خيبة جيل، استهوته الأيديولوجيا ولكنها خذلته. عاش تقلباتها ومني بخيبة واسعة. هذا ما توحي به شخصية جمال بن عمر، الفتى الذي تنقل في شبابه ومرحلته الجامعية بين تجارب سياسية مختلفة، منتقلا من التوجه الإسلامي إلى المجموعة الشيوعية التروتسكية، ثم «صدم شبابه الطري بالتناقض الواضح بين القول والفعل. كان قاطعا في حكمه وفي قراره بوثوقية اتسمت بها التيارات الأيديولوجية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي واستوى فيها الإخواني بالشيوعي»، وقرّر مغادرة العمل السياسي والتحرر منه، متجها إلى حياة الشباب ، قائلا: «لقد انتميت أخيرا إلى حزب الوطن (وطني بزناس). وهي تسمية طريفة صاغها الكاتب محاكاة ساخرة منه لتسميات المجموعات السياسية.

تتجدّد خيبة جمال بن عمر من السياسة بعد الثورة، وما تلاها من تطورات. فيفشل في الالتحاق بالبرلمان وينهزم أمام القوى الموسومة بالفساد «… ترشح لعضوية البرلمان في الدائرة نفسها التي ترشح فيها المكي الروبي. ففاز المكي. لم يكن جمال يملك المال والعصبية القبلية ولا ماكينة الانتخابات. قال أصحاب المصالح الذين كانوا يحكمون الجهة منذ عقود قبل تغيير السابع من نوفمبر وبعده وقبل الثورة وبعدها جمال ولد بلاد لكنه لا يشبهنا.. المكي أقرب إلينا لا يلوي العصا في أيدينا». ثم يستقيل من حزبه المشارك في الحكم «أنا مستقيل منذ أيام من الحزب. لن أكون شاهد زور».

هكذا تخيب الأجيال وتجد نفسها خارج اللعبة السياسية وتترك أحلامها وتنسى احتفالها بالحدث الثوري في سيدي بوزيد وتفقد البوصلة. هذه الخيبة مرّت بها شخصيات عديدة من بينها مرجانة، التي وجدت نفسها مهددة في مصدر رزقها، بعد أن خانتها الأطراف السياسية المختلفة التي تصرّ على هدم «الشالييه» الذي ترتزق منه والذي تركه له والدها المناضل القديم ضد الاستعمار.

كانت مرجانة بدورها مناضلة سياسية زمن دراستها الجامعية «تخرجت منذ خمس سنوات في كلية الفنون الجميلة، ولكنها لم تمارس عملها كأستاذة. انتمت للعامل التونسي خلال دراستها الجامعية. كانت ملتزمة ومقتحمة..». وهي ابنة ثائر على الاستعمار الفرنسي «أشعل الثورة في جبال خمير العصية»، أهدته دولة الاستقلال هذا الشاليه «لم يكن ثمنا لنضاله فتضحياته بلا ثمن، ولكنه الفضل والاعتراف نملكه أمام الله وأمام القانون منذ الخمسينيات»، ولكن الأطراف الحاكمة الجديدة أرادت هدمه بتعلات أخلاقية وجمالية وخاضت حوله جدلا فلم تجد معها غير بعض المثقفين.

تطلق تصريحات مرجانة النار على الجميع وتعبر عن موقف من الراهن والثورة. مجيدة صوتا اخر من أصوات الاحتجاج على المركز الجديد. فها هي تحاكم التاريخ: «كم أنت كاذب أيها التاريخ وكم هم قادرون على الكذب». وها هي تختصر ما جرى في سنوات الثورة: «تحالف اللص مع المشعوذ مع الثوري الكاذب مع من بيده السلطة والنفوذ. اتفقوا على هدم الشالية».

وهكذا بدا مشهد الهدم حزينا وكئيبا. مصوّرا لهذا التحالف الاجتماعي والأيديولوجي الغريب ولغلبة سلوك الارتزاق على المشهد». زحفت الفؤوس في الظلام محمولة على أكتاف نحيلة تشد عليها أياد معروفة، تعرفها مرجانة سبق لها أن سقتها من نبعها. أطعمتها من جوعها وآمنتها من خوفها. جرى المال المذلل تحت السور».

تبدو حكاية مرجانة محتملة الوقوع فقد حدثت أحداث مشابهة لها ولكن الرأي عندي إنها لا تخلو من رمزية. فهدم الشالية هو رغبة في هدم الماضي الاستعماري وسلطة الاستقلال التي نشأت بعد الاستعمار، وسلمت الشاليه لثوري تكريما له. لعل ذلك يجسد تلك الرغبة التي عبرت عنها أطراف سياسية مختلفة في التخلص من المرحلة السابقة ونسيان ثنائية الاستعمار والمقاومة…

لعل هذه الخيبات السياسية التي تكتبها الرواية تعدّ تعبيرا عن هواجس مختلفة. تشغل التونسيين، فمرجانة في هذا المجال هي كتابة لتلك الخيبة ولتلك الأوجاع. وهي كتابة احتجاج أخرى على المركز وكتابة رفض…

كاتب تونسي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي