لكنَّني فتحتُ الباب على جَنَّتي

2023-04-29

علي صلاح بلداوي

صرخةٌ تُهشِّم جرَّةً على نافذة

كلُّ ما حَدث، هو أنَّ هذه المدينةَ وجدوها جالسةً على وترٍ

وبينَ غَفلةٍ وأخرى تُضرَبُ به مِثلَ حصىً في ماء

والساكنين على أنغامها، أنا، وهؤلاءِ أهلي وجيراني.

لا هرجةً فيما وراء السياج

لا صريخَ يُهشِّم جرَّةً على نافذة

لا نزيفَ للوقتِ في زحمةٍ ولا خوف.

زرعتُ في الصَّمتِ عُزلتي

وحصَّنتُها بالشِّعرِ تَكبرُ في ظلِّه وتخضرّ،

وتلك المُدن التي لا يَعرِفُها أحد

أقصدُ تلك التي وَجدوها مُسترخيةً على ضِحكةٍ أو ضاحكةٍ على هَمس

صادقتها، وماعداها غريبةً، والغُرباء ما زالوا يَخطِفونَ الصِّغارَ من تنويمة الأم.

كلُّ ما حدث

هو أنَّ المدينةَ جالسةً على وترٍ

وأنا في غُرفتي، لم تُخرِّبني زحمةٌ،

 وأغنّي لعزلتي.

■ ■ ■

تقولُ: إلى أين؟

ذاهبٌ لأوقظ عُكَاز جدَّتي

كي أهشّ به على الوحشةِ السائبَة في دهاليزِ البَيت.

تقولُ: إلى أينَ؟

أقولُ ذاهبٌ لأَتعثَّرَ عَمدًا بِجردَلِ الماء

ولأَدعه يُبلِّل العَتبة ويرويَ الدَّغلَ الذي صار بين حُفَرِها،

لأسمَعَ العابرينَ يقولونَ: هلْ عادَ ميِّتٌ من موتهِ

أم هو ماءٌ ملَّ هَجرَهُ فَسكبَ نَفسهُ بنفسهِ!

ذاهبٌ لأَقشطَ الهجرَ عَنْ صورةٍ في زُجاجة

ولأنصتَ لصوتِ الغائبينَ يَرجع في صدى صوتي

ولأقضي على الموتِ في المزهريَّة.

إلى أين؟

ذاهبٌ لأطرق الباب

ربما تفتحه جدَّةٌ في غفلةٍ من الموت

وندخُلَ سويَّةً إلى الحديقةِ الخلفيَّة للبارحة.

■ ■ ■

في بُحيرَةِ الفَناء هذهِ

أخيرًا

عَثرتُ على قُبورِ أهلي في ليلةٍ سَوداء مثلَ كُحلةِ المَوتْ

وكان صعبًا أنْ أجِدَهُم في بُحيرَةِ الفَناء هذهِ

حيثُ أمواجها رَملٌ وشواهدٌ وقبورٌ

وحيثُ أنا،

بيدي شمعةٍ أخافُ من نَفخةِ الغيبِ تُطفِؤها غفلةً فأغرق.   

عثرتُ عليهم بعد أنْ نادَيتَهم بأسمائِهم

وكان نداءٌ لا يَسمعه سوى قابضُ الرُّوحِ يُحدِّقُ بي

ويُمْسِكُ على قَلبي بقرآنٍ يُتلى

بين نيامٍ لا تُرتجى يقظتهم.

كأنَّهم مُجتَمعينَ حولَ نارٍ لا تُرى

وكأنَّ جدّي، شَيخهم في المقبرة،

يَحكي لهم حِكايةَ الإبن الذي وصلَ في الظَّلامِ يبحثُ عن أهلهِ المَوتى

وسَيجدهم مُجتمعينَ، وقبورهم يُصعب شقّ طَريقها

مضفورةً بعنايةٍ ومُمدَّةٍ على كتفِ الوادي.

سلَّمتُ عليهم، يسمعونَني، أعرِفُ ذلك،

ويُجيبونَني، اقرأُ جَوابهم في قشعريرةِ المقبرة.

كانَ بَينهم وبَين الحياةِ التي أعودُ إليها

شارعٌ وشُرطيِّ

ومترين من رَصيفٍ لا يستريحُ عليه أحد،

الحياة التي أعودُ إليها

اسمها هكذا مع الأصدقاء، في البيت، والمكتبة

لكنَّها مع البرابرة الكُثر

جحيمٌ وصلَ مُبكِّرًا من القيامة.

■ ■ ■

سأناطِحُ هذه الفوضى وأكسر قرونها

طويتُ صفحة الغابةِ ومشيتُ مسافةَ حَربٍ وجُرحٍ وزنزانةٍ

ولم أعدْ ذلكَ الذي يُنقِّبُ عن حياتهِ في ساقيةٍ أو دالية

في همسِ شَجرةٍ أو جدارِ مغارة

لم أعد أحملُ افتراضًا

لقبَ النّائي الذي يريدُ أنْ يحيا عاريًا

بلا ما يُقلِقهُ في الصَّباحِ، ويُبيِّضَ جِفنيهِ في الليل فَلا يَمسَّه نوم

لم أعد أرغبُ بحفلةٍ حَول نارٍ من خَشبٍ مُلقىً على الجُرفِ

ولا إحصاء نجومِ السَّماءِ وجَمعِها في قَبضةِ اليد.

أدرتُ ظهري لكلِّ ذلك

وقلتُ

سأناطِحُ هذه الفوضى وأكسر قرونها

هذهِ الأمَّةُ التي تَستَبيحُ ولادتي وموتي.

لم أعد أُريد أنْ أكتُبَ قصائدي بماءِ الزَّهرِ منثورًا على السفوح

سأكتبها بماءِ هذهِ الأرض حتّى وإنْ خالطَهُ دمٌ ورماد

بنيرانها العالية في عيونٍ تَكادُ أنْ تُضيء

بتهدُّمِ أركانها في وجوهٍ

وطلوعِ فَجرِها في وجوهٍ،   

بزوالِ غُبرَتِها واتِّساعِ شَفتي أهلِها

ثم أقول: لقد طَويتُ غابةً ومشيت

لكنَّني فتحتُ الباب على جَنَّتي.

■ ■ ■

في شجارٍ مع الموت

آتيًا إليكِ من ضَربةِ شَمسٍ وضَربةِ حجارة

من عثرةٍ في شُرودِ

من غفلةٍ في حُفرةٍ

من طينٍ وعظامٍ مُكسَّرة

ومن لحاءٍ قَدَرُهُ أن تشقّه أظافري في صباحٍ مبكَّر.

آتيًا إليكِ من نهارٍ ليسَ على ما يرام

معصوبًا ويمشي بي على إسفلتٍ ذائبٍ ويتلمَّظُ لحمي

من مساءٍ أصِلهُ ولست أنا الذي تعرفين،

ليسَ وجهي وليسَ صوتي الذي فقدتُهُ في شجارٍ مع الموت.

شاعر من العراق








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي