منعطفٌ في الظلام

2023-04-18

أسامة إسبر

1

أنا أيضاً قادرٌ أن أتحدّثَ عن حياتي

كيف أرى الشارعَ نهراً

يَصُبُّ في بَحْرٍ فارغ

النافذةَ

مُكَبَّلةً بستارتها

تَحْلمُ بكُوة تُطِلُّ منها

أو البابَ

 يَحِنّ إلى أصابعَ

عالقةٍ على أسلاك الحدود

كيف أرى المشاهد

 تَمُرُّ أمام عينيَّ

أكثرَ غرابةً مما يمكن تَخَيُّلُه

كيف أخْرُجُ إلى الشارع

وأسير

متدفقاً في نهر العمل

كيف على الشاطئ

أتأمّل

غائمَ العينين

مُحدّقاً في الماء

غير أنّ ما أراهُ في ذهني

ليس طريقاً

بل غريقاً هو أنا

يصارعُ

يكرّرُ حياة سابقة

تصارع الأمواج.

2

أنا أيضاً قادرٌ أن أتحدّثَ عن حياتي

عن آخِرِ طبقٍ طَبَخْتُهُ

وكيف نَسِيْتُ أن أَرُشَّ المِلْح

وأنا أتابع الأخبارَ على الشاشةِ

أو نَسِيْتُه على النار حتى احترقَ

وأنا أفكّرُ بخيط الدم النازف سُدى

وبصُوَر الموتى

على جدران مدينتي

وبشواهد القبور

التي تنمو

كما لو أنها مزروعةٌ زَرْعاً

وكيف حين فَتَحْتُ النافذة

كي أهوّي غرفتي

دخل هواءٌ بارد

تجمّدت فيه روح المدينة

وتجلّد قلبُها

كيف أمضيتُ سنوات من عمري

ارتديتُها كثياب

غير قابلةٍ للغسل أو الكَيِّ

وخلعْتُها أو خَلَعَتْني

وكيف غالباً ما تخيّلتُ حياتي

منفوخةً كبالون يحمله الهواء

فوق سطوح الحارات المزدحمة

ويقودهُ إلى حقلٍ مجهولٍ

ويُنْزلهُ على شوكة برية

فينفّس ويخرج هواءٌ

كأنه روحٌ

تحررتْ في البراري.

3

وأنا أيضاً قادرٌ أن أتحدّثَ عن حياتي

عن قصصي في الحب

والتي كانت تُجمِّل لي الشوارع

وتختصرُ المسافات

حين كان الضوءُ

حكايةَ طريقٍ تروي نفسها

والأفقُ

هديةً تُقدمها النافذةُ

والبابُ

مدخلاً إلى قلبٍ

واليدان

بَتْلتين في باقة الوردِ

وبوسعي أن أستفيضَ

عن عناقٍ

حوّلني إلى وردةٍ

أو شمسٍ في فضاء مظلم

وعن قبلةٍ

أدخلتْني في فردوس لحظةٍ

خِلتُها أبدية

وعن عينين

أدْمنتاني كأنني تبغٌ

عن ابتسامةٍ حين أراها

تتوهّجُ في وجهي كأنني صاحبها

وعن يدٍ تشابكت مع يدي

امتصّتِ الدفء منها وأعادتْه

زارعةً في راحة الكفّ

معنى للأيام.

4

وأنا أيضاً قادرٌ أن أتحدّث عن حياتي

كيف حين أفتحُ الباب كي أخرجَ

أمنحُ الهواءَ رئتين ظامئتين

المسافةَ قدمين جائعتين

ضوءَ الأنوثة

جسداً مظلماً

في مدينةٍ لا تتوقّفُ عن الانغلاق

تُشيّدُ حول نفسها سوراً

لا يَكُفُّ عن الارتفاع.

5

وأنا أيضاً قادرٌ أن أتَحَدَّثَ عن حياتي

عن صُوري التي أضعْتُها في مايوركا

وطارت في الريح

عن الصحراء البيضاء لشتائي

 الأول في شيكاغو

عن أشجارٍ أورقت ثلجاً

عن جليدٍ امتصّ الضوء ولوّنهُ

عن ضوء

 قفزَ وتزحلقَ

أو فيما بعد ركبَ الأمواج

على شواطئ كاليفورنيا

عن ضوء مُبلّل بالظلمة،

ارتداها وارتدتْهُ

 وكلاهما استأنسَ بالآخر

ولم يطغَ عليه.

6

وأنا أيضاً قادر أن أتحدّث عن حياتي

كيف أتتني أخبارُ المدن المدمرة

وأخبارُ الجثث والتوابيت

كيف تناسلتِ القبورُ في جلدي

ولم تهاجرْ من دمي

كيف صار دمي حقولَ ألغام

حواجزَ ودُشَماً

قناصينَ وأشلاء

وبيوتاً مهدمةً

كيف ضيّعَ دمي شرايينه

وتبدَّدَ في فراغٍ

تركه الموتى خلفهم.

7

وأنا أيضاً قادرٌ أن أتحدّث عن حياتي

لكنني دوماً أنسى تفاصيل كثيرةً

تضيعُ مني

وحين ألجأ إلى ذاكرتي

يكون هناك دوماً شخص آخر

عاش عني

في سيرته

أقرأ قصة حياة أخرى

وأرى نفسي هارباً من نفسي

راكضاً دون أن أتلفّتَ خلفي

نحو منعطفٍ في الظلام.

شاعر سوري مقيم في الولايات المتحدة الأميركية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي