هذيان

2023-04-06

ذكرى لعيبي

وحيداً في المدينة أسيرُ بخطواتي المتآكلة، لم يتبقّ منها إلا الخطوة الساهية، جعلوني مثل آنية من خزف يعلوها غبار السنين، أنا مغفـّل طول الوقت، وغبيّ أيضا، لم أعِ لماذا كانت تريد أن يوجد معنا إينما نذهب ونجيء! هذا ما قاله أسامة حين أجبروه على ارتداء ذلك القميص الأبيض ذي الأكمام الطويلة، ثمّ اقتادوه إلى المصحّ في الطرف الآخر من العاصمة.

زوجته سعاد لم تنبس ببنت شفة، جلست في الصالة والسعادة تغمر قلبها، ألم وفرح لا نعرف أيهما زائف.. سعاد تشعر أخيرا بأنّها تحرّرت من عبودية أسامة، ذلك الزوج الذي أحبّها حدّ الجنون، ارتبطت به رغم أنها لم تحبّه، لكنه صديق الرجل الذي عشقته! زوجها لم يكن يعرف حبّها وعشقها لأدهم، لكنه واثق من حبّهِ هو لسعاد، لهذا ارتبط بها، كان يظنّ القلوب التي بوسع الغابات واخضرارها قادرة على احتواء النفوس اللئيمة، لم يكن يعرف أنّ التقرّب من محراب امرأة خبيثة دون قربان هو الجنون بعينه. بعد أن سمع أدهم ما حدث، ذهب لبيت أسامة ليتقصّى الخبر.

– كنتُ في انتظارك.. تفضل، لديّ هاجس بأنك ستأتي لتتحرّى صحة الخبر.

– كيف حدث كلّ هذا؟

– حاولت أن أجعل منهُ شخصا جديرا بالاحترام.

– أسامة! لكنه محترم، وقور، ذكيّ، يحبكِ، هل تعرفين معنى يحبّكِ؟

لم تعن لها شيئا هذه الصفات..

– أنا أحبّكَ أنتَ منذ البداية، لكنك لم تنتبه لي، تتجاهلني، تزوجته حبّا بك، لأنك صديقه، لأني سأبقى أراك، انتزعت أنفاسي من صدري، وقذفت بها إلى جحيم لم أكن أعرفه، لم أتخيل أنه سيصل إلى هذه المرحلة عندما أخبرته أني لا أطيقه.

أيقن أدهم عمق الألم الذي تسبب به لصديقه من دون قصد. ذهب لزيارة أسامة، جلس في حديقة المصحّ ينتظر حضوره. أقبل أسامة في هيئة متعبة جدّا:

– أرأيت يا صديقي ماذا فعلوا بي؟ أنا أوزوريس، شرعتُ للناس القوانين وعلمتهم الزراعة، أسست لهم البيوت، وطمرت العادات الوحشية. قضيت على آكلي ضمائر البشر، أنا من نشرتُ الحضارة، هاهاها.. أنا سمحتُ لها أن تتقلّد حكم البلاد، أنا سمحت لإيزيس زوجتي المقدّسة أن تقتلني! ذُهل أدهم مما يسمع، صدمته ابتلعت صوته، حاول أن يستعيد بعض الذكريات عسى ولعلّ يستجيب لها صديقه، لكن دون فائدة. أشار أسامة إلى أحد المرضى الموجودين في الحديقة:

ـ أتعرف هذا؟

– لا

– إنه شيخ دين جديد، نعم، دخلتُ نفوس هؤلاء الشيوخ هنا، وجدتُ الفضائل والأخلاق التي يتكلمون بها، تُحلّل لهم ما يحرمونه علينا!

سكتَ برهة، ثمّ التفت إلى أشجار النارنج والساقية المتعرجة التي تمرُّ في منعطفات الحديقة، رفع رأسه للسماء، تنهّد:

– هل تعرف الآلهة عشتار؟

– نعم.

– أسقتني كأسا جعلني ثملا لسنوات، توجتني ملكا في معبد ننماخ، وطلبت من الآلهة أن تمنحني جسدا آخر، كأسها كان مزيجا من دموعها ومرارة ذكريات بداية خلقها، عشتار لن تحبّ سواي، ولم يُنظم شارع الموكب إلا لإتمام مراسم عرسنا، أنا وهي، لكن الأرض ضاقت أن تراني أنجب الزمن المقبل!

كيفَ انقلبت الأمور بهذه السرعة؟ كيف تدهور عقل أسامة؟ أين صارت الحقيقة لتحلّ محلّها هذه الأوهام التي لا نفع منها:

– أنت بائس إلى هذا الحدّ صديقي؟

– لا يهمّ أن نكون بؤساء؛ لا يهمّ إن ذقنا صفعة الزمن ولعنة الأشقياء، ما زلنا نأكل وننام ونحلم ونتكاثر، نقرأ، نكتب، نرسم، نرجو رحمة السماء، لا يهمّ صديقي ما دام لنا إله، مساجد وكنائس، لكننا نفتقر إلى بسمة الأبرياء، غفرانهم وبياض قلوبهم.

التقطَ من الأرض غصنا صغيرا يابسا، ضغط عليه بقوة حتى انكسر، بدت عيناه جاحظتين وهو ينظر لأدهم:

– في تجويف عقل الإنسان زاوية عميقة لا تصل إليها الفضيلة ولا الرذيلة، الألم واحد إن تلقيت طعنة في ظهرك، أو جرحت في قلبك، أو استغفلتك امرأتك.

قاصة عراقية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي