ليته يسكت ويسمع

2023-04-01

صلاح بوزيان

تبدل الجو فجأة فأتى على أبي سروال السقطي حين من الدهر لم يبع قطعة من الأطمار في دكانه، وقد شغلته نُتف من أخبار المدينة كان يتسقطها صباحا في المقهى، حيره أمرُ البُن والسكر والزيت، وكان يُتعبه حديث الجبناء وتزعجه أخبار الحمقَى المتناثرة في فضاء المقهى وبين الأزقة، عراكٌ على الخبز وسِبابٌ في طوابير البُن والسكر، وطوابير المدارس الخصوصية التي يزداد عددها بين يوم وليلة، ويأسف لحال المدينة والقرى تعج بالتمائم وأعشاش السحر وأنواع البخور، تبرّم أبو سروال من السلطان الذي يتكلم كثيرا ولا يسمعُ، وخاب ظنه فيه بعد إن كان فرحَ بقدومه، وكان أبو سروال يردد بينه وبين نفسه: (إنه يتكلم كثيرا ولا يسمع، ليته يسكت ويسمع). انتابه الحزن سنوات على بيوت قديمة هجرها أهلها، كانت تضج بالحياة وتعج بالتراتيل آناء الليل وأطراف النهار، وصارت أوكارا للحشاشين، ولولا ألطاف الله وبقايا جذوة أمل في قلبه لتسرب إليه اليأس وغلبه القنوط وهجر المدينة. عشقَ تجارة الملابس القديمة، وانسابت معه الدنيا، فكان يكسب المال الوفير طيلة أشهر وينعدم الرزق أشهرا أخرى، وهو أثناء ذلك يتخبط في الويلات ويعاني في صمتٍ كغيره من الناس، ولا يكتفي بالقليل من الكسكس ترسلُه إليه أخته من المطعم الشعبي الذي ورثاه عن أمهما الحاجة هناء. فيدفع عنه الضيق ويسافرُ إلى القرى المجاورة ويزور أحبابه محملاً بالهدايا.. أحبابه الذين اتخذوه سندا ومتكأ ساعة العُسْرَةِ، ويقضي عندهم أياما يتنعم بالطعام والشاي الأحمر والهواء النقي.. ويلاقي كبارهم يتحدث معهم عن أخبار حبيبه «المِدبْ غرس الله» وابن أبي زيد القيرواني ومحرز بن خلف وشقران وذي النون المصري وأحمد التليلي.. ويستلذ بمغامرات الفارس عمارة بن الحاج صالح الشريطي الذي أرهق الاستعمار الفرنسي.. ولا تنتهي الحكايات كل يومٍ ممزوجة بالقهوة والشاي الأحمر والعصيدة والكسكسي.. وكان يتألم للجفاف الذي بدأ يرمي أجنحته على الأراضي الشاسعة.. وتمضي الأيام بسرعة مذهلة ويعود إلى المدينة..

اعتاد أبو سروال الجلوس على عتبة دكانه يتلمس الدفء، وكان بين الفينة والأخرى يحث الخطى إلى البضاعة ويرتب الملابس وينثر ما علق بها من تراب وغبار وأدخنة وبخور ويمسح ما اندرس من علامات تبدي جودتها.. إنك حينما تطالع وجهه تتأكد أنه مقاتل لا يكل بدنه، بعض التجاعيد على جبينه.. وبريق نور على صفحة وجهه الأسمر.. تملكته الحيرة منذ أيام.. فيطيل الاستذكار والموازنة ويطرقُ كل باب وهو يفكر في الخلاص.. ويطل عليه بابُ الله فيتيقظ فيه الأمل، رغم أنه لم يبع قطعة واحدة من كيس الملابس القديمة.. ويذوق طعم النوم ويتنعم بكسكس أخته.. صابرٌ ينتظرُ الفرج من الله.

هذا الدكان واسع عالي السقف.. شرقي مربع.. فيه نافذة فوق الباب.. ومسامير قديمة مصفوفة موغلة في الجدار حد نصف الطول.. تتدلى منها معاطف وبدلات رياضية وكسوات وقمصان وسراويل وجوارب وفساتين نساء وقبعات وأحذية ملطخة بمسحوق التلميع.. ينبعث الهدوء في أركان المحل.. كان أبو سروال عطوفا على الغلابى والمساكين.. استقر عزمه على مساعدة المعوزين.. وكان كلما أوغل في المساعدة أوشك على الإفلاس إلا أنه لم يُقلع عن ملاطفة المحتاجين وكانوا يبتاعون منه الملابس بنصف حقها ويؤجلون الباقي لوقت غير معلوم.. ويتقادم الإمهال وتتراكم الديون.. وينسى أبو سروال من أخذ ومن أعطى.. وكان يبعثر النظرات في وجوه الفقراء رأس كل شهر.. عله يسترد بعضا مما أخذوا، لكن دون جدوى.. بقية أثمان الملابس تأبى عليه.. فيرضى لنفسه الصمت ويلوذ بالصبر.. وغضب عليه التجار ولم يأذنوا لأنفسهم بالكف عن تأنيبه.. لكنهم ساسو ديونه بالأناة والتفهم.. وأدركوا أن الرجل أهلكه تحنانه على الفقراء والمحرومين.. فسامحوه.. وعقدوا العزم على أن يعطوه كيس ملابس دون مقابل وكيسين بنصف الثمن واتفقوا على أن تدوم هذه المعاملة سنتين.. إلا أن الهاني كبير التجار أخفى وثيقة.. ثم بعث أحد أعوانه إلى أبي سروال ليُناقله كلام التجار المنبثق عن اجتماعهم بالأمس.. كان أبو سروال واقفا في دكانه يحاسبُ زبونا.. وفجأة أطل مسعود ضاحكا.. سلم عليه.. فرد أبو سروال السلام مرتعدا.. انصرف الزبون.. تهالك على المقعد وهو يستجمعُ قواه وقال: (مرحبا بك سي مسعود، كيف حال سي الهاني وشركائه.. و الله يا سي مسعود إنني..) فقاطعه مسعود قائلاً: (يا سي بوسروال، أنت رجل أمين وأصيل، تساعد الفقراء والمحتاجين وترضى لنفسك بالربح القليل.. وهذا ما تسبب لك في الديون.. جئت أبلغك سلام كل التجار وأعلمك أنهم اتفقوا أن يأخذوا بيدك جزاء أمانتك وإنسانيتك و لن أطيل عليك لو تفضلت وذهبت معي الآن إلى كبير التجار ليحدثك في الموضوع) وكأن أبا سروال على عِلْمٍ بساعة الخلاص.. أسرع فأغلق دكانه وصاحب مسعود إلى شركة الهاني.. كانت السيارة تطوي الأرض طيا وأبو سروال يتخيل الحل الذي اختاره التجار له.. أقرضٌ وهو يكره القروض؟ أم احتساب السلعة بلا أدءات… استقبله الهاني بالترحيب والقهوة في المكتب .. وطال الحديث بينهما وأبو سروال يكذب نفسه ويصدق رحمة الله.. وبعد أن أدى صلاة العصر مع الهاني واتفقا على كل شيء.. و ما إن خرج من الشركة وفي يده عقد شراكة مع الهاني وخمسة آلاف دينار حتى سمع صوتا يتعالى من باطنه ويقول: (الرحماء يرحمهم الله ولا يتركهم) فبكى أبو سروال وهو يجتاز السوق.. تذكر جيرانه فاشترى لحما وخضرا وغلالا وخبزا وحلوى و حليبا. وانتقى قفتين.. قفة لجيرانه دس فيها مائتي دينارٍ ملفوفة في قطعة قماش خضراء ووضع فوقها الخيرات وقفة له عمرها بما اشتهته نفسه عاليها أكياس البُن والسكر وقنينة زيت.. وجاس خلال الدروب والأزقة.. ويمم شطر الزقاق.. وهو يغمغم: (لعلـه يسكت ويسمعُ ويُشاور..).

كاتب من تونس







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي