إذا زُلزِلَت النفس

2023-03-03

حسن قجّة

مع انقضاء الأيام بعد الكارثة، يجافينا الكلام وتعجز التعابير، فقد تشقّقت الروح وانهدَّ الوجدان، بمقياس اثني عشر عاماً من البأس واليأس.

كنا نتّكئ على ثباتكِ يا أرضَ بلادنا، ونستمدُّ صبرَنا الطويل من انغراس جذورنا في أعماقكِ الراسخة الأصيلة. أفما كنتِ ترأفينَ بحالنا، بعدما أمطرتْنا السماءُ بالقذائفِ، وابتلعتْنا بحارُ الهروب، ولفَحَنا الهواءُ برياحِ الصقيعِ، وجفّتْ أنهارُنا وآبارُنا وأحلامنا؟!

٭ ٭ ٭

يساءلني أهلُ البلاد في مغتربي عن حجم المُصاب الكارثيّ، مدفوعين بالفضول وبرغبة المعونة، فأجيبهم وأنا ذاهل: إنْ كنّا لنحزن ونأسف لأيّ كارثةٍ إنسانية أينما حلّتْ، فإنها هذه المرة وقعتْ في بلادنا، هذه البلاد التي تسكننا حنيناً وحبّاً ووجعاً وخوفاً. لعلّ الأرض قد ضاقتْ بما ينوءُ به أبناؤها الذين «احترفوا الصبر والانتظار» ومغالبةَ الجراح، وهم يعانون أهوال الحرب لأكثر من مئة وأربعين شهراً!

وإنْ كان منكوبو الزلازل في الدنيا كلها يجزعون لوهلةٍ، ثم يهبّون لإنقاذ مَن حولهم وما حولهم بكل ما أوتوا من إمكاناتٍ محلية ومساعداتٍ دولية، فلم يكنْ هذا لينطبق علينا. فلا أهلُ البلاد يملكون المعدّات والآليات والأموال بعد حربٍ وحشيةٍ مزّقتْ الأوصال والآمال، ولا المبادرون للغوث من أطراف الدنيا يجدون السبيل للوصول إلى المستغيثين من تحت الأنقاض. لنجدَ هنا تطبيقاً حرفيّاً -لا مجازيّاً- لمقولتنا السورية القديمة (لا يرحمون ولا يدَعون رحمة الله تنزل!)

وحين تدمعُ عيون السائلين من الحزن وتكفهرّ وجوههم من الغضب والغيظ، أمضي في جوابي لهم: فما تقولون فيمن يعجز في حالةٍ كهذه عن مدّ يدٍ فعّالةٍ لعونٍ حقيقي؟ وهو البعيدُ قصيرُ اليد بصيرُ العين، حزينُ القلب ومتعَبُ العقل! وهو مَن ليس تكفيه متابعةُ الأخبار ونشرُ المعلومات والمساهمةُ في جمع تبرّعاتٍ عينيّة ومالية. فمُصابنا أكبر وأعظم من جمْعِ قطراتٍ كمن يرفع عن نفسه العتب! وها نحن مكبّلون بالعجز والغضب والحزن. وبعد إطباق الصمت الواجم على محدّثيَّ وعليّ، يبقى لديّ همسةٌ أخيرةٌ لا بدّ من إكمال صورة الحقيقة وصورة الشعور بها، فأقول: لقد توقفَت الارتداداتُ الأرضية لهذه الزلزلة عند بضع مئات من الهزّات، لكن ارتداداتها فينا امتدّتْ إلى سنين مضتْ، لتنكأ جراحات صور الحرب المدمّرة، التي أَجبرْنا ذواتنا على الإشاحة عنها بعد حين، كيلا نفقد عقولنا وأرواحنا معاً. ثم امتدتْ إلى سنين مقبلة وهي تضنينا بسؤالاتها: وماذا بعدُ أيتها الأرض؟ ماذا بعدُ أيتها السماء؟!

٭ ٭ ٭

منذ اليوم الأول لكارثة الزلزال، استعادت ذاكرتي قصيدةً كنتُ قد أوردتُها في المجلد الأول من موسوعة «حلب الشهباء في عيون الشعراء» التي صدرتْ مؤخّراً لي عن دار بريل للنشر في هولندا. هي واحدة من مجموعةِ قصائد سردَ فيها شعراؤها آلام حلب في مواجهة أهوال الزلازل والأوبئة التي داهمَتها عبر تاريخها الطويل، عدا القصائد الكثيرة التي بكتْ خراب المدينة على يد غزاتها المتوحّشين.

القصيدة للشاعر تقي الدين المطلبي يصفُ فيها ما أصاب حلب ومحيطها جرّاء الزلزال المدمّر الذي دهاها سنة 1822 (ج1/ ص519). ومما جاء فيها:

ما لِليالي تَمادتْ في مساويها

والدهرُ كدَّرَ لذّاتي وصافيها

والحادثاتُ رمَتْني في دواهيها

والعينُ بالدمعِ ما جفَّتْ مآقيها

تَزَلزَلَ العقلُ منا، والقلوبُ ذَوَتْ

والروحُ ماجتْ، وفي بحرِ الهمومِ هَوَتْ

وجمرةُ الحربِ في وسطِ الفؤادِ ثَوَتْ

أَخْنَتْ ضلوعي، وعينيَّ الغزارَ كَوَتْ

فسَالَ دمعيَ مِن عينيْ لِيُطْفِيها

انظرْ إلى حلبٍ.. آهٍ على حلَبِ

أفناهُمُ الدهرُ بالزلزالِ والعطَبِ

فابْكُوا أُهَيلَ الهدى والجودِ والحسَبِ

يا ليتَهم سَلِمُوا مِن وقعةِ الوصَبِ

سقاهُمْ مِن كؤوسِ الموتِ ساقِيها

كم مِن ديارٍ وخاناتٍ بها هُدِمَتْ

وكم مساجدَ للعُبّادِ قد عُدِمَتْ

وكم مآذنَ في حيطانها صُدِمَتْ

وكم نفوسٍ على ما فاتها ندِمتْ

راحوا ضياعاً، ولم تكفلْ ذراريها

كانت ديارُهُمُ مِن أحسنِ الدُوْرِ

كأنّها جنّةٌ للولْدِ والحورِ

أتَتْهُمُ هَزَّةٌ كالنفْخِ في الصُوْرِ

وقال ربُّ العلا: يا أرضَها مُوْرِي

فمارَتِ الدُوْرُ وانْهَدَّتْ أعاليها

كانوا أُناساً يخافُ الدهرُ صَوْلَتَهُمْ

فخَانَهم دهرُهُم واغتالَ دولتَهُمْ

تَبكي عليهم مطاياهم ونسْوتُهمْ

والمجدُ يَبكيهمُ أيضاً وإخوتُهمْ

والدارُ تنْدبُ مَن قد كان يحميها

تبكي عيوني إذا نَظَرَتْكِ يا حلَبُ

دماً عليكِ، ولم يهتزَّ بي طَرَبُ

ما كنتُ أحسبُ أنَّ الدهرَ ينقلِبُ

يوماً عليكِ، وأنَّ الدُوْرَ تنْخَرِبُ

أو حادثَ الدهرِ بالهزّاتِ يُبْليها

٭ ٭ ٭

أما المقطع الشعريّ الذي ألحَّ على مخيلتي وأنا أكتب هذا النص، فهو من ملحمة «مديح الظل العالي» لشاعر الإنسانية محمود درويش حين قال:

وحدي، أراودُ نفسيَ الثكلى

فتأبى أنْ تساعدني على نفسي

ووحدي، كنتُ وحدي

عندما قاومتُ وحدي

وحدةَ الروحِ الأخيرهْ

لا تَذْكُرِ الموتى، فقد ماتوا فُرادى أَو عواصمْ

سأراكَ في قلبي غداً، سأراكَ في قلبي

وأجهشُ يا ابنَ أُمِّي باللُغَهْ

لغةٍ تُفَتِّشُ عن بَنيها

عن أراضيها وراويها

تموتُ ككُلِّ مَنْ فيها

وتُرمى في المعاجمْ

هي آخرُ النَّخل الهزيلِ، وساعةُ الصحراءِ،

آخرُ ما يَدُلُّ على البقايا

كانوا، لكنْ كُنْتَ وحدكْ

كم كنتَ وحدكَ تنتمي لقصيدتي، وتمدُّ زندكْ

كي تُحوِّلها سَلالِمَ، أو بلاداً، أو خواتمْ

كَمْ كُنْتَ وحدكْ

كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي