بردُ هذا الصباحِ ليسَ عادلاً

2023-03-01

علي صلاح بلداوي

في غرفتكَ مترامية الأطراف

لم يُراودكَ القتلةُ في خيمةٍ تُسرِّبُ المطرَ إلى رجفتك

ولم تصحُ على الطِّين تنزلقُ عليه حياتكَ وتتكسَّر

أنتَ في البيتِ نازحٌ، وفي غرفتكَ يُطاردُكَ الذئب.

لم يُداهموكَ في الليل،

ولم يُخرجوكَ في ثياب الكوابيسِ إلى المقصلة،

أنت تتدلّى من المروحةِ

والذين ساقوهم إلى حتفهم يَخنقونك.

لم تجُع كي ترى في حفنة الرَّمل طيفَ سنبلةٍ تائهة

ولم تعرَ كي تظلَّ تبحثُ عن ثيابٍ تلبسها للظِلِّ

والظِلّ أنت في نتوء العظام وموت الإشارة.

ربما لم تُحصِ على حائط السجن عمرك المتبقّي

ولم تُغنِّ خلفَ زنزانةٍ أُغنيتك الأخيرة

ولم تبكِ وهُم يسحبون جاركَ في الفجر إلى الإعدام.

ربما لم تشاهد مدينتكَ تذوبُ مثل تلٍّ من المِلح

وتمضي غريباً في حقلِ سراب

لا تزرع فيه سوى فقدك ولا تُحصي سوى فقد أهلك،

لكنْ

في غرفتكَ مترامية الأطراف

غرفتكَ التي تطلّ على جبلٍ في فلسطين

وتشرق شمسها من اليمن

غرفتك التي يأتي نسيمها من الشام

غرفتك الكئيبة في العراق

غرفتك النائية في بلد

غرفتك الحزينة في ضجعتك

يحدثُ معكَ كلُّ هذا

أيها الكائن الذي ينهض كلّ صباحٍ من مقتله

ليكمل حياته.

■ ■ ■

من سيُقنعني بأنّني لستُ أحدهم؟

(إلى طفلةٍ في المُخيَّمات)

من أيِّ درسٍ تعلَّمتِ البكاء بهذه البلاغة؟

وكم تكسَّرت على يديكِ عصا الحرمان

حتّى حَفظتِ أنشودةَ الوجع المبكّر

وها أنا أسمعها من دفء فراشي يا ابنة البرد القارس

يا ابنة الذين تصطكُّ أسنانهم في العراء

يا ابنة الذين تركوا النيران تحرسُ رَمادهم

وظلُّوا يَبحَثونَ عن نيرانٍ أُخرى كي يَدفَأوا

أسمعُ أنشودتكِ المُرَّة: "نُريد حطباً للبرد".

كلماتك لا تُحني رأسَ طاغيةٍ ولا تُخجل سُلطاناً

هذا العالم يا صغيرتي بلا حياء

لا يتعرَّق جبينهُ

كما قد يحدثُ مع تمثالٍ مِعطَفه من البرونز

ويقف وحيداً في ساحةٍ عامّة.

لا يخجلُ

كما قد يحدثُ مع خَشبةٍ تسمعُ نداءاتكِ

ولا تستطيعُ المَشي إليك.

هذا العالم عذَّبني مثلكِ يا صغيرتي

لوَّعني بالغُزاة الذين هجَّروكِ

وقتلني برصاصهم كذلك

لكنَّني الآن في الدّفء وأنتِ في أحشاء العاصفة

فمن سيقنعني بأنَّني - في دفئي - لستُ أحد الطّغاة!

■ ■ ■

أشباهي الذين يتساءلون

لمن هذه المدينةُ التي يُهرِّبُ حجارتها اللّصوص

وتُطمرُ في الآبار المهجورةِ أغانيها!

لمن هذا الشارع الذي يسلكه الغُزاة في الليل

وبيتُ مَن هذا الذي تلوكه مطارقهم؟

أيُّ بلادٍ هذه التي لم تعُد لي

والتي لا زلتُ فيها حيّاً إلى الآن

ولا أُرزقُ إلّا نواعيها؟

يا أشباهي الذين يتساءلون مثلي

تعالوا لكي نجتمعَ عندَ نخلةٍ كلَّما أحرقوها

صار رمادُها رُطَباً وطار سعفها في الفضاء.

تعالوا لنتقاسم الصَّبر

ونتبادل المديح على صمودنا.

تعالوا لنعوي في الليل مثل ذئاب البراري

ونتسلّل بعوائنا إلى راحة القتلة.

تعالوا في النهار

نُعزِّز الخنادق بصرخاتنا

ونترك عظامنا في الفخاخ تؤدِّب أناشيدهم.

تعالوا إن وجدتم ما تبقّى من بلادكم،

ربما لن تجدوني.

■ ■ ■

كيف تأتي؟

مثل الظلام يستيقظُ فجأةً في شمعةٍ على رأس الغافي

والغافي يحلمُ بشظاياه تنتشلها ملائكةٌ من وراء الحدود

مثل العزاءِ يفترسُ اللحن في روح المُغنّي

والمغنّي تحت ركام العود تئنُّ في عظامهِ أغانيه

مثل فزعٍ يركضُ حافياً في عيونٍ حَيرى ولا تعرف طريقها

هكذا حين تأتي الخسارة

ليسَ في رقبتها جرسٌ وليس لخطوتها صوت

لا حشرجةٌ في حَنجرتها ولا نفسٌ يلهثُ خلفَ سائسها.

هكذا تقرأ الأصابع ملامحها في غبار البيوت الهاوية

وترى العينُ أنفاسها مكتومةً في يدِ الطِّفل

يسحبُ العالم من ياقته إلى حطامه الصغير

هكذا في أحلك الأماكن

مثل البلبل الذي أخرجوه مشدوهاً من قفصِ الأرض

يقرأ الزلزلة.

لا ليسَ في رقبتها جرسٌ

لذلك الذين دخلت عليهم في غرفهم الآمنة نائمين

لم يستيقظوا لأجلها،

وحين تركتهم

تركتهم نائمين إلى الأبد.

■ ■ ■

إلهي، افعل أنت ذلك

أيُّ كلامٍ

يجعلُ من صباحِ هذه الجموع المُشرَّدةِ

دافئاً

وأيُّ حطبٍ قادرٍ على تَسلية عِظامهم في فَرقعاتِ نارهِ!

بردُ هذا الصباحِ ليسَ عادلاً كذلك

إنَّه يمرُّ على ارتعاشاتي التافهةَ بظلِّه فقط

ويمرُّ على أطفالٍ مُشرَّدين في الشوارعِ

كما تمرٌّ مجرَّةٌ خبيثةٌ فتسحق نجماً عاجزاً في طريقها

ولا يمرُّ أبدأ على الطاغيةَ يشربُ قهوته من خلف النّافذة

وخلف النّافذةِ شَعبه يُقادُ إلى ضَياعٍ قارسٍ وقاتل.

إلهي

اجمع كلَّ طغاة العالم في برميلٍ صدئٍ

واشعل ناركَ فيه للفقراء، يتدفَّأون عليها

ويأنسون.

إلهي

افعل أنت ذلك.

شاعر وتشكيلي عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي