الشاعر العراقي سعد سباهي السماوي: نحن أبناء الذنب ولا يحكم الشعر إلا الإبداع

2023-02-23

حاوره: نجم الجابري

«قالت:

أو تلك من حدثتني عنها

وقلتَ تجيئوني

في كل ليلْ

في المنام حمامةً

تأتي لتملأ ليلتي حلماً وتغمرني هوىً

قالت: أتلك فقلت أي والله

تلك هي التي كانت تعاودني

أجل تلك الملامح

ذلك الصوت الذي ما زال يخطف مسمعيَّ بشجوه

قالت: أما حدّثتَ نفسك من تكون

فقلتُ: لا

قالت: أجل

هي روح أمّك في مداك

تحوم حولك».

بهذه الكلمات يرسم الشاعر العراقي سعد سباهي السماوي إحدى حالاته الشعرية، التي نتلمّس فيها أسلوبه وسمات منهاجه الشعري، من حنين وحزن وخيال لا تنفلت وفقه رصانة البناء. عن الرجل ورؤيته للشعر وعالمه، كان الحوار..

بداية.. ما الشعر وفق رؤيتك؟

الشعر هو طاقة لفظية وسيلتها الأنساق اللغوية والأساليب المأهولة في عصرها، فرضت وصفها وفنَّها ثقافة وإرث من الوعي والتطلع، فضلاً عن الحاجة النفسية في النفس الشاعرة لتكون الشاهد على الانحياز إلى صوت الإنسان الصارخ في داخل النفس ليبوح بذلك الإنحياز إلى الجمال والحب والإنسانية متلمساً لذلك ما أوتيَ من دربةٍ وسلطان على أدوات التعبير والفن، لكي تولد القصيدة، ذلك الكائن الافتراضي الأنيق ليستفزّ الذهن الوادع الرتيب ويسجل حضوره في ذائقة عصره.

وما الذي يحكمه، هل الخيال أم التوسل بالذكرى واستحضارها؟

ما يحكم الشعر هو الإبداع فقط ولا شكَّ في إن معايير الإبداع نسبية وغير محكومة برؤيا أو قانون، إنما هي انطباعات ولّدها الشعور بالحاجة إلى الجمال والفن وألْهمت على تبنِّي الصياغات والتشبيهات والمجازات التي تلهم الذوق وتسمو به وتملأ النفوس شعوراً بالصدمة والتّفكّر. وباستقراء هذا الموروث وتراكمه ومن زمن سحيق لربما، رافق المسيرة منذ أن فتح الإنسان الأرض بعقله وبيده وصار له حضور وذكريات عليها، لأن الشعر هو الوسيلة المعبّرة عن عواطفه وخياله وأحلامه، ولا شكَّ في أن الذاكرة الإنسانية هي أهمّ مصدرٍ لخيال الإنسان ولعاطفته، وهي الملهم الدائم لإيحاءاته، وهي المعين الذي ترتوي به النفس الشاعرة لتنتج ولتعبِّر عن الحنين تارةً وعن التطلع تارة أخرى.

ولماذا كلّ هذا الحزن السومري المستوطن يقينك الشعري؟

نحن أبناء الذنب.. نحن أبناء الآلام التي ملأت حتى آمالنا وضاقت بها دروب الضوء الذي في عيوننا إلى الغد، فما زلنا ندثر أحلامنا تلك التي ملأتنا بها حكايات أهل عالمنا هذا، والتي نراها كل يوم عبر وسائل الحداثة نراها ماثلةً ونرى إلى جانبها أن عقولنا ودواخلنا ما زالت تغطيها رمال الصحراء وعواصف البوادي. كل يوم نحن في باحات الموت، فمن أين نجد النفاذ إلى العالم الذي يهب أنوفنا أنفاس العصر، ومن أين نأتي بالشعور بإنسانيتنا، وفي كلّ ضحىً نرى ونسمع طبول الميدان ووقع الخيول وهي تثير غبار النقع.

وهل تستضيف القصيدة الشاعر، أم هو الذي يستوطن لحظاتها؟

قال الأقدمون الشعر إما أن يكون صنعة أو طبعاً، وأول من التفت إلى ذلك هو ابن قتيبة في كتابه «الشعر والشعراء». والمحدثون وعلى لسان الجواهري العظيم يقول «فكأننا لأدائها قلم». نعم الشعر هو ما كانت القصيدة هي التي تفرض حضورها وجدواها على الشاعر، أما الذي يشبه الشعر فهو الذي يفرض الشاعر نفسه على القصيدة لتكون نظماً وهذياناً. ولا أجد نفسي شاعراً، إلا حين يدعوني هاجس ويرتفع صوت القصيدة من داخلي يدعوني إلى سفرٍ مع الروح إلى خارج هذا العالم لكي أرى ما أراه في حلمي، وأسمع ما لم أسمعه في يقظتي. القصيدة عندي هي لحظة من لحظات الجنون والشرود إلى فيوضٍ من عالمٍ غير مرئيٍّ، وأنا في معجمها مفردةٌ ليس أمامها معناها.

وماذا عن فحوى القصيدة ومنطق الكتابة ومتى يعدّان إبداعاً في عين المتلقي؟

القصيدة هي ملاذ الشاعر حين يقع تحت طائلة الضغط النفسي.. القصيدة هي زفير ساعة أَلَم، وأنا أؤمن بأن الشاعر لا يهرم ولا تشيخ نفسه، لأن لديه الوسيلة التي يصرّف بها الهموم ويقتل بها الشعور بالبؤس والانكسار، من خلال البوح والإفضاء بما يثقله من جراح وهموم، والشيء الذي أجد التطرق إليه ضرورياً هنا هو أن الشاعر مهما كان موضوع قصيدته بعيداً عن شواغله وعن تجاربه الحياتية، تجد أعماقه حاضرةً في صوره وفي أفكاره، وحتى في ألفاظه تجد ذلك مبثوثاً عن دراية، أو عن عدمها بين سطوره وخلف بنائه الفني. ومن ناحيةٍ أخرى فهو كلما كان ملمّاً بشروط صنعته ومتقناً لأدواته وصادقاً في تجربته، كان أكثر إبداعاً فصدق التجربة له دخلٌ كبير في النجاح الفني.

يقال إن مصافحة الشاعر الأولى للقصيدة تحمله إلى أرضٍ جديدةٍ وبعيدة. كيف تواجه هذا الطقس المتغيّر؟

القصيدة قد تولد في ساعةٍ ملغومةٍ بالاضطراب والقلق اللذين يبعدان الشاعر عن ملامسة موضوعه بصدق. فقد نجدها سيّالةً متدفّقةً يجري فيها القلم جريان السيل في منحدر وما يعيّن طبيعتها ويمنحها وصفها من النجاح أو الهبوط أحياناً هو مزاج الشاعر ساعة معراجها، فضلاً عن مدى أثر التجربة فيه. أنا أواجه طقسها حين الساعة غير ساعتها بالهروب إلى الشاطئ، أو اللوذ بالسفر إلى محطات الذاكرة، وأقوم بإبعاد كلّ شيءٍ أَلَفْتُ مواجهته وأغادر المكان إلى مشاهد أخرى، لكن حين أكون متسلطناً وتكون كلّ مشاعري حاضرةً حين ذاك أستدعي كلّ ما في ذهني وفي ذاكرتي من موحيات الصور لأجعلها مادّةً في صناعة النص.

وماذا عن الشعر الفانتازي وهل جرّبتَ الكتابة فيه؟

نعم جرّبتُ الكتابة فيه وأجد أن معاودته ضرورية في أحيانٍ كثيرةٍ يفرضها تردّي المشاهد، أو حين يمنح الزمن فرصته الغبية إلى غير أهله. هذا الاتجاه في الشعر له حضوره وإرثه عبر عصور أدبنا العربي وله أعلامه وشواخصه، وأصبح مادة مهمة في الدراسات والبحوث. ومن أظهر العصور التي ازدهر بها هذا اللون من الشعر هو العصور المتأخرة، أي بعد سقوط بغداد سنة 656هـ على يد المغول، وبعد تردّي الذائقة والذوق وبعد نكوص الأوضاع السياسية والاجتماعية تحت وطأة الثقافات الوافدة مع سياط الغزاة وسيادة عجمة الألسن.

متى يكون الشعر نافذة يطل منها الشاعر على عالمه السري؟

الشعر مهما تدثرت معانيه بالرمز وتسلطت على صوره الإشارة والإيماء فهو يدلي بموضوعه ويكشف عن سره بسهوله. فالشعر إنجاز همٍّ روحي وبوح عن مكنونات الذات، أي أنه بوح غير مرئي يعتمد الفن والإيماء، أكان عن دراية من مُنشئه أم لم يكن كذلك.

يفتح النص أبواباً للشاعر حينما تبدأ لحظة مخاض القصيدة، أيّ الأبواب أقرب إليك.. الأم، الحبيبة، الشهيد؟

لكلّ ساعةٍ من ساعات قيامة الشعر فروضه التي تؤجّج في النفس ذاكرتها وصورها وحضورها.. (الأم) العالم الساحر الهاطل حبّاً والمكتظّ بالصدق والنقاء، وموضوعه رغم تقادم السنين وابتعاد أيامه فهو ما زال وميضاً يبعث سخونته من تحت رماد الأيام. (الحبيبة) وما معنى الحياة دون حبّ، ما هي إلا جدول مواعيد.. النوم، الاستيقاظ، الأكل، السفر، العمل. (الشهيد) وإنك تجد نفسك مدانا في كلّ حين لأن هناك من دفع دمه فاتورةً وثمناً لتبقى تأخذ أنفاسك حرّاً طليقاً.

إلى أي مدى أثّر اختصاصك في التدريس في رسم بوصلتك؟

للمهنة أثر في سلوك الإنسان وتصرفاته إلى حد قد تتغلب معه لغة العمل واصطلاحاته على طريقة الأداء في مجالات الحياة الأخرى وقد يصل هذا التأثير إلى تحديد نمط المزاج والسلوك والتفكير وقد تطبع اتجاهاته السلوكية والتعبيرية بطابعها. وأنا أشعر بأنني ممتلئٌ بآثار بيئتي التي نفثت فيها أنفاس الجور وقساوة الأوامر والنواهي، لأن والدي رحمه الله قضى أكثر من 35 سنة عسكرياً مسلكياً اختمر في سيرته السلوك العسكري الذي انعكس في بيتنا، فملأ طفولتنا خوفاً ومشاكسةً صامتةً حذرةً، فضلاً عن ما أخذنا من تلك البيئة هواية الشعر ومداولته ومحاولات التجريب المبكرة وقد أضاف الاختصاص شيئاً إلى ذلك.

كيف تقيم الأداء النقدي العراقي؟

النقد أولاً موهبة رغم أهمية الاحتراف كونه يمد الناقد بالتجربة وباستيعاب تطور الفن وحضور الأمثلة التي تثري ملكة الناقد، وتوفر له قرائن الظواهر المستحدثة. ولدينا في عموم الأدب العراقي نقد جرت معاييره وفق العطاء النقدي العالمي، والآن على ساحة الأدب في العراق هناك نقاد كبار ولهم باع وحضور مؤثر في الفكر النقدي المعاصر.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي